وهذه الكلمات رأيتها مكتوبة بلون فاحم. في ذروة باب الجحيم:
" مدينة العذاب .. مدينة الالم الابدي.. مدينة القوم الهالكين.. لقد خلقتني القدرة الالهية والحكمة الازلية .. لم يخلق من يقدر على الخروج من قبضتي. اني باق الى الابد. ايها الداخلون، اطرحوا عنكم كل امل في الخروج ثانية".
فقلت لدليلي: ان معنى هذه الكلمات لقاس على نفسي.
لم انهى كلماتي حتى دوت اصوات بكاء وصراخ وعويل في جو قاتم فأثار ذلك على التو الجزع فى قلبي.
لغات غريبة وصرخات رهيبة وكلمات اسى وصيحات غضب احدثت ضجيجا يدور على الدوام كذرات الرمل حين تعصف بها زوبعة.
قلت وقد هالني المنظر: ما هذا الذي اسمع؟ ومن هؤلاء القوم؟
اجابني: هذه الصورة البائسة التي تتخذها النفوس التعسة لاولئك الذين عاشوا ولم يسلكوا طريق الخير او الشر، فلم يعصوا الله ولم يطيعوه، ولذلك طردتهم السماء حتى لا ينقصوا من جمالها، ولفظتهم اعماق الجحيم حتى لا يكون لهم فخر على الاثمين. لم يخلفوا لهم ذكرا في العالم، وتزدريهم رحمة الله في السماء وعدالة الله في الجحيم تطلب قصاصهم. ولا تجوز لهم راحة لانهم لم يحفلوا في الدنيا بغير الاكل والنوم، والدائرة التي يدورون فيها اكبر دوائر الجحيم.
تلك النفوس المعذبة اصطكت اسنانها وجدفت على الله ولعنت النوع البشري والمكان والزمان واصل وجودها وميلادها. واختلط دمائهم بدموعهم. وتلاصقت كلها وهي تبكي بمرارة عند الهوة الملعونة التي ترتقب كل انسان لا يخاف الله.
بعد ذلك جاء الشيطان بعينين من الجمر يجمعهم كلهم. وكما تتساقط اوراق الخريف واحدة بعد اخرى، كذلك قذف الاشرار من سلالة ادم من هذه الضفة واحدا فواحدا كطير سمع النداء فلباه. لقد بعثت ارض الدموع ريحا عاتية ابرقت ضوءا احمر اللون فسقطت كرجل اغشى عليه.
ثم رأيت هناك اول انهار الجحيم واكبرها وتتألف مياهه من دموع المعذبين. ورأيت ايضا الفلاسفة الوثنيون .. وتساءلت :
- لم هم هنا ان كانوا ليسوا اشرارا؟
اجاب:
- انهم هنا ليس لانهم اشرار، بل لان فضائلهم لا تكفي. انهم لم يعبدوا الله كما ينبغي. وعذابهم الوحيد ان يعيشوا في شوق لا يحدوه الامل في الخلاص.
رأيت ايضا جماعة البخلاء عن اليمين والمسرفين عن اليسار، وكما تسقط الريح الاشرعة حينما تتحطم ساريتها كذلك سقطوا ..
ايه يا عدالة الله! من ذا الذي يقدر ان يدرك كل هذا العذاب والالم الذي رأيته؟ ولماذا تمزقنا خطايانا هكذا؟
ان من تسمو على كل شئ حكمته خلق السموات .. حتى يشع كل جزء نوره موزعا الضياء بالتساوي. كذلك في المباهج الدنيوية يحول المتاع من قوم الى قوم ومن اسرة الى اسرة وفرد الى فرد. انه - تبارك اسمه - يدبر ويقضي ويسهر على ملكه.
لكن عويلا طرق اسماعي. فقال لي فرجيل: الان نقترب يا بني من المدينة التي تحمل اسم ... بأهلها المكتئبين وبحشدها الكبير.
فقلت استاذي، اني اتبين بوضوح معابدها هناك في الوادي، محمرة اللون، كأنها خارجة من النار.
قال: ان النار الابدية التي تستعر في داخلها تجعلها تبدو هكذا.
وسمعت صوتا: من ذا الذي يسير في مملكة الموتى دون ان يذوق الموت.
قلت : يا دليلي العزيز اذا كان ممنوعا علينا ان نتقدم الى الامام فلنرجع معا عل اثارنا بخطى سراع.
فقال: لا تخف، بل هوّن عن روحك الواهنة وغذها بالامل.
وقد رأيت في اعلاه عنوان "المنون". وقفت اتسمع اذ لم تسعفني عينايّ للرؤية بعيدا في الهواء الاسود والضباب الكثيف. وما هي الا لحظات حتى سمعنا صوتا اشبه بريح عاتية تحطم الاشجار وهبط من السماء ملاك فهربت الشياطين كما تهرب الضفادع امام الافعي وتلتصق بقاع المستنقع. وفتح رسول السماء باب المدينة بضربة من صولجانه.
كان هناك مستنقعا يحيط بالمدينة ينفث روائح كريهة. وامام المدينة بدا هناك سهلا وكان مملوءا من قبور الهراطقة من اتباع ابيقور الذين كان مبدأهم في الحياة "لنأكل ونشرب لأننا غدا نموت" وقد وضعت فيه توابيتهم وقد توهجت بألسنة اللهيب وهم يرسلون صرخات الألم.
ثم قال فرجيل كلاما غير هذا ولكني لا اعيه في ذاكرتي، لأن عيني قد جذبت كل انتباهي نحو البرج العالي ذو القمة المحمرة.
وان امعنت النظر في كتابك ستجد بعد ورقات غير كثيرة ان الفن يتبع الطبيعة. ومن هذين الاثنين ، الفن والطبيعة – اذا استعدت الى ذاكرتك قصة الخلق- ستجد انه يجب على البشر ان يستمدوا حياتهم ويواصلوا تقدمهم من هذين الاثنين.
ثبت عينك على الوادي فها قد اقتربنا من نهر الدم الذي يغلي ماؤوه ويعذب فيه كل من يؤذي الاخرين بعنف. حرارته تستدر الى الابد دموعا وتسيلها شدة الغليان.
يا للجشع الاعمى! يا للغضب المجنون الذي يهزنا هكذا في الحياة القصيرة ثم يقذف بنا في الحياة الابدية على هذا النحو المرير كغصن اخضر يحترق احد طرفيه ويقطر الاخر ماءا، ويصدر صوتا كأنه يبكي بسبب النار التي تشتعل في احد طرفيه، وكذلك يصرصر من اثر الهواء الذي يخرج من الطرف الاخر.
انا الذي حملت الامانة للمنصب المجيد وكدحت في عملي حتى فقدت بسبب ذلك الكرى نبضات قلبي وقفت مبهوتا لا اقوى على الكلام.
ايها الانتقام الالهي، كم ينبغي ان يرهبك كل من يقرأ عما رأيت عيناي!
هكذا سقط الوهج الابدي الذي اشعل الرمل كما يقع الحجر تحت الزناد.
كانت حركة الايدي البائسة دون انقطاع وهي تبعد الاحتراق المتجدد عن نفسها هنا وهناك.
نقلا عن رواية: الجحيم - دانتي اليجوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يثري الموضوع