25 ديسمبر 2015

رواية الاخوة كرومازوف


كان نور الشفق قد اخذ يتلاشى امام طلائع الظلام. كان ايفان يحث خطاه على الطريق الذي كانت مقفرا في تلك الساعة. وكان الليل يكاد يهيمن على الكون.. ويمكن وصف الفكرة الطاغية التي كانت تدور في رأسه في تلك اللحظة بانها تتلخص في تلك الكلمات "لقد فات الاوان على اصلاح نفسي ..اذن.." واحس بشئ لم يعرف له مثيلا من قبل كان يدنيه من اليأس.. لكنه خطر له هاتف يحثه للذهاب الى منزل اخيه الاصغر اليوشا. حين وصل صافح اخاه بحرارة لم يألفها قط من قبل.. بدأ ايفان حديثه:
- اخي اسمح لي بسؤال: هل يحق للمرء ان يدقق في وجوه الناس ويقرر من منهم يستحق الحياة وايهم يمنع عنها؟
- ولماذا تحشر مسألة استحقاق الحياة في الامر؟ ان هذه المسألة كثيرا ما يتم تقريرها في قلوب الناس، اما فيما يتعلق بالحقوق، فمن من الناس يمكننا انكار حقه؟ وانا ارى ان تلك انانية بغيضة.
ثم اطرق الى الارض وبدت عليه ملامح فيلسوف متأمل، واستطرد قائلا: 
- ان الاناني هو ذاك الشخص الذي يتوق الى التنعم بملذات الحياة كاملة وحيدا. ولكن جميع جهوده لن تؤمن له كل ملذات الحياة، بل تقوده الى الدمار الذاتي، لانه بدلا من ان يصل الى مبتغاه واثبات وجوده تقوده الى العزلة التامة. لقد بات الناس كل ينشد البعد عن غيره، وينفرد بمسلكه وينأى بذاته عن الاخرين. ويخفي نفسه ويخفي ما يملكه عن غيره وينتهي بهم المطاف الى ان يكره غيره. 
استغرق ايفان في التأمل برهة وهو مسند مرفقه على المنضدة ورأسه على راحة يده ثم قال:
- ولكنك ترى ان كثير من الناس يكدسون الاموال وكل منهم يحدث نفسه مغتبطا قائلا: "الان اصبحت قويا وامنا على نفسي". 
- نعم ارى ذلك جيدا، وهم لفرط حماقتهم لا يدركون انه كلما كدس المرء المال كلما تردى في هوة الضعف الذي يحطم الانسان تحطيما. ذلك ان الانسان يعتاد انذاك الاعتماد على نفسه وحدها فيلغي مفهوم "التعاون" من مفاهيمه ومن سلوكه. انه يكفر بالانسانية ويعيش مرتعدا كل ساعة خشية فقدانه الاموال والامتيازات التي كسبها لنفسه. انك تجد الكثيرون الان لم يعودوا يفهمون ان الأمن الحقيقي كائن في التماسك الاجتماعي بدلا من الجهد الفردي المتفرق. 
ثم زمّ شفتيه وهزّ رأسه وقال:
- ان هذه الفردية البغيضة لابد ان تنتهي يوما ما، ولكن الى ان يحين ذلك لابد ان نعمل ولو افرادا قلائل على تخليص ارواح الناس من وحدتها، وحضّهم على ان يؤدوا من الاعمال ما يوحيه الحب الاخوي. 
ابتسم ايفان ابتسامة ساخرة:
- ارى ان حديثك ما هو لغو، وان احلامك ما هي الا كالمقذوف الذي اندفع يشق عنان السماء ويكون له انفجار مدو، ولكنه ينتهى الى لا شئ. لكن، هل كانت حقا تريد ارسالي الى "شامورزين"؟ واختلجت نبراته..
قال اليوشا:
- مهلا هدئ من روعك. تمهل قليلا لا تبد اسفا. ثم نهض من مكانه ووضع اصابعه على جبهته واطرق هنيهة ثم قال: لقد شكرت الله منذ هنيهة على ارسالك اليّ فلقد بعثك الرب اليّ في الوقت المناسب كما بعث السمكة الذهبية الى الصياد الاحمق في القصة. 
- اصغ الي يا اليوشا! اصغ الى يا اخي! لقد فتحت قلبي لملاك من السماء والان اريد فتحه لملاك على الارض. وانت هو هذا الملاك.
ثم بعد لحظات انخرط في البكاء وقبض على يد اليوشا وهو يقول:
- "يا عزيزي، يا للشقاء العظيم الكامن للانسان على الارض!.. انني ماض في طريقي، ولست ادري ما اذا كنت مسوقا الى العار ام الى النور والبهجة. ان الشئ الذى لا اقوى على احتماله، هو ان يعمد انسان رفيع القلب سامي العقل الى جعل مريم العذراء قدوة له في اول الامر، ثم يتخذ من سدوم مثالا له في نهاية الامر.
- لقد كنت اريدك ان تبوح باسرارك لي منذ وقت طويل، ولكني ايضا كنت اعلم طباعك جيدا من قبل، فما انت الا شخص كتوم كالقبر.
- ولكني اراك يا اخي وقد احمررت خجلا بمجرد بدأت بالكلام، ولعلي ابصر في عينيك وميض نار ما ان اتي الى ذكر ما يؤرقني بالاكثر..
تبدلت ملامحه وانفرجت اساريره ثم اغرق في ضحكة جامحة عنيفة اهتز لها بدنه ولم يستطع لوقت طويل ان يوقفها ليتكلم.. واخيرا قال:
- ان ما ذكرته لك يا اخي ليس بالشئ الكثير، انه لا يعدو الا ان يكون ازهارا نامية على جانبي الطريق. ان لدى سجلا حافلا بالذكريات.. ولا تعجب اذا وجدتني التذ بهذه الذكريات بدلا من شعوري بالخجل.
- لكني لا اعتقد انني استطيع ان افهمك. اعذرني يا اخي ولا تغضب مني ان قلت لك، اني لا اطيق ان اسمع المزيد.
- على اية حال، انني لم احضرك للتحدث اليك عن هذا اللغو. ولكن هو الظرف الذي جرّني للكلام.

رائعة دوستويفسكي "الاخوة كرومازوف"

20 ديسمبر 2015

رواية "انشودة عيد الميلاد"


رواية: "انشودة عيد الميلاد" هي احدى الرويات الشهيرة عن عيد الميلاد، رواية قصيرة جدا لشارلز ديكنز. تعتبر الرواية سهلة القراءة جدا وبسيطة، ولكن هناك الكثير من العمق بها، لذلك اعتقد انها تستحق القراءة بطريقة مدروسة وعلى مهل.

الرواية عبارة حكاية بسيطة عن كيفية تحول رجل عادي بارد القلب عندما يواجه ذكريات ماضيه والنتائج المحتملة لتصرفاته والتكاسل الذي كان يتصف به، وتحدث تغييرات إيجابية في حياته، وبالتالي في علاقته بالآخرين.

في الحقيقة، كان من الواضح - حتى من البداية - أن القصة ليست حقيقية بالكامل كما انها ليست خيالية بالكامل. فبصرف النظر عن الأشباح الشهيرة في الرواية (شبح عيد الميلاد الماضي، وشبح عيد الميلاد الحاضر، وشبح عيد الميلاد الذي لم يأت بعد)، والتي لم تكن غريبة عن الأدب في ذلك الوقت، فقد تجول بنا الاديب في عوالم موازية ليست بعيدة عن الواقع. 

تحوي الرواية تناقضات الحياة: العبوس مقابل اللهو والاحتفالات، المشاعر الجياشة مقابل القلب المتبلد، الصحبة مقابل العزلة، الفقر مقابل الثروة، البخلاء مقابل المبذرون، الماضي والمستقبل الخ.

يظهر تشارلز عمل الخير ليس كعطاء مالي فقط، ولكن ليكون جانب شخصي جدا (اللطف والمجاملات، والتفكير بشكل خلاق حول ما يجب القيام به). ويظهر الأسف او الندم على انه تصرف لا طائل منه بل وذاتية بغيضة: الطريق إلى التغلب علي البخل يكون من خلال محاولة التعويض عن السلوك السابق- الامر الذي يعيدنا لأهمية عمل الخير.

دور الاشباح:
قصص الأشباح كانت شعبية في انجلترا في ذلك الوقت. كان كل شبح متميز جدا في المظهر والسلوك عن الاشباح الاخرى. الأول كان شبحا شاحبا غامضا (في طي النسيان؟) و "مثل الطفل؛ ولكن ليس مثل باقي الاطفال لأنه رجل عجوز "(الطفل هو والد الرجل؟)؛ والثاني هو روح احتفالي بهيج يرغب في جعل الاخرين يشاركونه الفرح والثالث هو مخاوف او هواجس سكروج المظلمة،والمخيفة، مما يعكس خوف البخيل من الموت، وكذلك الحزن الذي سوف يعيشه إذا كان لا يغير من صفاته البغيضة، ولكن الشبح كان ذو وجه غير واضح الشكل، ربما يشير إلى قابلية تطويع المستقبل.

قصاصة من الفصل الاول:
شب مارلي وكانت الاسماء المدونة على باب المكتب هي : "سكروج و مارلي " و مات مارلي . "مات كمسمار الباب" كما يقول المثل . و لا ادري لماذا من المفروض أن يكون مسمار الباب أكثر موتا من أي نوع أخر من المسامير لكن مارلي قد مات . مات منذ سبع سنوات. وبقى اسم "سكروج" اسم مارلي العجوز أبدا .. و ظل جاثما على باب المكتب بعد ذلك بسنوات : " سكروج و مارلي". 

و كان المكتب يعرف بسكروج و مارلي . و احيانا ينادي الناس الجدد على المكتب سكروج بـ "سكروج" و احيانا ينادونه بـ "مارلي"، لكنه كان يرد على اية حال على من ينادي على اي من الاسمين. 
كان رجلا جامدا في كل ما يختص بشئون المال، جامدا كالصخر . و كان متحفظا كتوما عديم الاصدقاء و وحيدا. و كانت البرودة داخله تجمد وجهه العجوز: كانت عيناه حمرواوين، و شفتاه الرفيعتان زرقاوين، و يبدو أن البرد قد جمد طريقته في المشي. و كان شعر رأسه و فوق عينيه ابيض، ابيض مثل الثلج. و كان يحمل برودته معه دائما اينما ذهب، فكان يثلج مكتبه في الصيف، وكان في وقت عيد الميلاد في نفس برودة الطقس. 
لم يوقف احد سكروج أبدا في الشارع ليقول له : 
- عزيزي سكروج كيف حالك ؟ متى ستأتي و تراني ؟ 

و لا كان الشحاذون يسألونه احسانا. و لا الأطفال يسألونه : 
- كم الساعة ؟ 
ولا احد سأله ذات مرة في حياته عن الطريق إلى المكان الفلاني . حتى كلاب الناس فاقدي البصر بدت تعرفه، وعندما كانوا يرونه قادما كانوا يسحبون اصحابهم داخل دورهم.
لكن سكروج لم يكن يهتم . كان يحب ذلك . كان يحب أن يشق طريقه عبر سبل الحياة المزدحمة محذرا كل الناس أن يبتعدوا عنه. 
و في ليلة عيد الميلاد جلس سكروج مشغولا في مكتبه. كان الطقس باردا، و استطاع أن يسمع الناس في الخارج و هم يصفقون بأيديهم ليحتفظوا بدفئها.
و كان الضباب كثيفا حينما كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، فساد الظلام في الشوراع و لم يظهر للنهار نور على الاطلاق . فكانت الشموع مشتعلة في نوافذ المكاتب المجاورة ملقية ظلالا حمراء على ما حولها والذي كان يبدو وكأنه لوحة رمادية، و جاء الضباب منسكبا في كل شق و متسللا من كل ثقب مفتاح. لقد كان الضباب كثيفا فلا تكاد ترى المنازل المقابلة .
كان باب مكتب سكروج مفتوحا حتى تظل عينيه على كاتبه الذي يعمل في غرفة صغيرة في الجانب الآخر من الممر. و كان الكاتب قد اشعل قليلا من الفحم في المدفأة، ولأن باب حجرته كان مفتوحا فقد كانت الحجرتان تبدوان حجرة واحدة. لم يستطع الكاتب أن يضيف و لو قليلا من الفحم إلى نار المدفأة لأن سكروج يحتفظ بصندوق الفحم في حجرته.

15 ديسمبر 2015

رواية انّا كارنينا


ابتسم ابتسامة بلهاء وحملق فيها دون ان ينبس ببنت شفا هنيهة ثم راح يقول:
- وهل صادفك التوفيق في مهمتك؟ هل نجحت حيث اخفق غيرك؟" فلاح البشر على محياها واجابت:
"كل التوفيق والحمد لله.. لقد كان الخصام على اشده بين اخي وزوجته ولولا وجودي لانفصل الاثنان وتصدع البنيان وتشتت الاسرة".
طفقت تقص عليه بالتفصيل دقائق رحلتها.. تململ بعد عدة لحظات وقاطعها قائلا:
"على اني مسرور لنجاحك في ازالة الغمامة التي ظللت سماء العائلة". ونظر الى ساعته، واردف: "اما الان فانا ذاهب، يجب ان اذهب الى عملي". فتمتمت بصوت خافت: "لترافقك السلامة يا زوجي العزيز!".
واتبعته بنظرها ، وناجت نفسها: "انه خير الرجال.. افضل الازواج.. كم هو بارع، بارز، مخلص!".
فهل ارادت من كلماتها ان ترجح كفته على كفة سواه؟ هل تحارب احساسا غامضا يصرفها عنه صرفا شديدا؟ ثم انتقلت بمخيلتها الى فرونسكي، فرأته واعجبت به، وتساءل مغضبة: "تبا له لماذا نظر اليّ هكذا؟" وهزت رأسها.

كانت العربة قد وصلت الى المنزل.. وحالما ترجلت انّا امام منزلها هرع اليها ابنها سيرج فضمته اليها في حب وشوق، وطبعت على وجنته قبلة اودعتها اغلى عاطفة، قبلة مخلصة مملوءة شوقا وحنانا.. قبلة ام.
وعادت الى نفسها – هنا مملكتها الصغيرة، ونسيت فرونسكي ، ونسيت تأنيب ضميرها، ونسيت خجلها من سؤال زوجها، وما فكرت الا في بيتها وفي زوجها.

شرعت بعد قليل تسخر من نفسها – كيف تعجب بشاب لم تره الا مرات قليلة؟ ثم كيف تفكر فيه وكلامه ليس فيه اغراء ولا بارقة ذكاء.. وقالت تناجي نفسها: "والاجدر بي ان ازيل من ذاكرتي ما صادفني وما طرق سمعي، فلا احدث زوجي بأمر تافه لا يستأهل التفكير!".