الصفحات

4 مارس 2016

من مذكرات سجين


لقاء بعض الجنيهات القليلة حصلت من بائع الروبابكية الذي اتي ليأخذ مخلفات الراحل على عدة دفاتر قديمة واوراق مهملة. مضيت باوراقه هذه الى البيت وامضيت اليوم بكاملهه في فرزها. ثلاثة ارباع هذه الاوراق كانت عديمة الجدوى، قصاصات لا اهمية لها. ولكن ما لبت ان عثرت توا على دفتر كبير الحجم الى حد ما مغطى بكتابة دقيقة الخط وغير مكتملة، ربما اهمله او نسيه صاحبه ذاته. انه سرد وان كان غير مترابط، للسنوات العشر الاخيرة من حياته.
وفي بعض الامكنة كان هذا السرد متقطعا بقصة اخرى، وذكريات غريبة ورهيبة، متناثرة بصورة مضطربة. اعدت قراءة هذه المقاطع عدة مرات وتيقنت تقريبا انها مكتوبة في لحظات جنون. بدت لي غير خالية من المنفعة. عالم جديد تماما، غير معروف حتى الان، غرابة ورؤية مختلفة للحياة. شغفت بكل هذا فقرأت بنوع من الفضول. قرأت التالي:
".. ثم هناك من الرجال المساكين الذين يرتكبون جرائم من اجل ان يرسلوا الى السجن ويتخلصوا بذلك من حرية اشق بما لا يقاس من السجن. لقد عاشوا قبل المجئ للسجن حياة بائسة وتعيسة ولم يأكلوا حتى الشبع ، قتلوا انفسهم بمشقة العمل دون ان يغتنوا بل اغتني على حسابهم ارباب اعمالهم. لذلك فهم حين يأتون الي سجن الاشغال الشاقة يعتبرون العمل اقل مشقة واقل صعوبة، يأكلون ملء بطونهم، افضل مما تمنوا يوما. وفي ايام الاعياد يأكلون لحما. ثم هناك عمل المساء الذي يدر عليهم بعض المال. ثم هناك المجتمع الجديد الذي يتعرفون عليه في السجن وقد ينظر الوافد الجديد منهم ليجد نفسه وسط افضل صحبة في العالم..

ان المثقف الذي حكم عليه القانون بالعقوبة نفسها التي حكم بها على رجل بسيط من الطبقة الكادحة، يتألم بما لا يقاس بألم هذا الرجل الاخير. ينبغي عليه ان يحتمل حياة ادنى، لا يرتضيها، انه يتعود استنشاق هواء اخر.. انه سمكة ملقاة على الرمل! ان العقاب الذي يتلقاه يعادل عقوبات السجناء جميعا، تبعا لروح القانون، وهو في بعض الاحيان اشد ايلاما وتعذيبا له بمقدار عشرة اضعاف ما يعانيه الرجل العادي.هذه حقيقة لا جدال فيها! 

احد السجناء الذي لفت انتباهي حين وصولي، مزاجه الرائق كان لا يفارقه ابدا، ولم تكن حياة السجن تبدو شاقة كثيرا، بينما كان اخر – وهو من الطبقة الراقية المثقفة - ذو منظر يستدر الشفقة، وكانت صحته تضعف يوما بعد يوم. تلك الافكار عصفت بذهني بعد وصولي الى السجن بأيام قليلة، وسط هواء موبوء وشتائم بذيئة مصحوبة بسباب وضحكات هيستيرية وضوضاء لا تنقطع. استلقيت فوق سرير مسندا رأسي الى وسادة من ثيابي "لم تكن لي وسادة بعد" . وسرحت بافكاري المتتابعة.. ان حياتي الجديدة لم تبدأ الا الان. وكان المستقبل يخبئ لي اشياء كثيرة لم تكن في الحسبان..

ها انا قد وصلت الى السجن، الميناء الذي سأرسو فيه سنينا طويلة. هنا الركن الذي عليّ ان اعيش فيه، انني ادخل اليه منقبض القلب، تموج النفس باحاسيس الارتياب والحذر. ومن يدري؟ حينما سأغادره – لو اطال الله في عمري – هل ساتأسف عليه كما فعل البعض ممن اعرفهم؟ ان المرء قد يفعل ذلك مدفوعا بتلك اللذة الغريبة التي تدفع المرء الى ان ينكأ جراحه، وكأنه يستعذب الالم.

ان النظرات الفضولية الحاقدة التي كان يراقبني بها بعض رفاقي السجناء، من قساة القلوب، كانت تثير حفيظتي في البداية الى حد ان تمنيت ان اعيش مثلهم وان اسقط معهم في الهاوية ذاتها. ولم استطع ان اميز سريعا بين عداواتهم العامة لكل شئ ولكل احد، ومودتهم نحو رفقائهم. لذلك فان ما احاطني به بعض السجناء من مودة وبشاشة اعاد لي قليلا من الشجاعة وانعش نفسي. وسرعان ما لاحظت بعض الوجوه الوديعة والطيبة وسط ذلك الحشد القاتم والحقود من السجناء الاشرار. وسارعت الى القول لنفسي على سبيل العزاء: "في كل مكان على الارض يوجد اشرار. ومن يدري؟ قد لا يكون هؤلاء الاشرار اسوأ من اخرين الاحرار الطلقاء، وقد يكون فيهم هم ايضا بعض الخير". هكذا كنت افكر وانا اهزّ رأسي، ومع ذلك، لم اعرف الى اي مدى كنت على حق. 

لا يحتاج السجين ان يكون غنيا لكي يعد له طعاما خاصا: كنت انفق على طعامي كل ما اتحصل عليه من عملي الاضافي. وطوال عدة سنوات ظل احد رفاقي ويدعي "فريد" يعد لي شريحة لحم مرتين كل اسبوع. اغرب ما في الامر انني لم اتبادل معه ربما كلمتين، طوال تلك المدة. حاولت اكثر من مرة اجراء حوار معه لكنه كان عاجزا عن اجراء اي حوار، كان يكتفي بالابتسام والجواب بنعم او لا عن كل الاسئلة. كان هذا الرجل شديد الغرابة، هذا الرجل الذي له جسم هرقل وعقل طفل في السابعة من العمر.

كان "فاضل" ايضا في عداد اصدقائي. لم اتقرب اليه ولم اسع يوما الي مصادقته، ولكنه ارتبط بي بمحض الصدفة ولا اذكر حتى في اية لحظة. كان يقوم بغلي الماء في غلاية الشاي لي، ويركض لتنفيذ الاعمال التي اطلب منه القيام بها، واعداد كل ما يراني محتاج اليه، فيعتني بكي ملابسي.. وكان يفعل ذلك بحماس وانهماك كما لو كان يحس بأن هذا من واجباته، كنت احسه وكأنه ربط مصيره بمصيري، فأخذ يهتم بكل ما يعنيني وكان يقول فبدلا من ان يقول "لديك قمصان كثيرة .. ملابسك تحتاج الى كي" كان يقول "لدينا قمصان كثيرة.. ملابسنا تحتاج الى كي". وكان كأنه لم يكن يرى شيئا جميلا غيري، بل اظن انني اصبحت الهدف الوحيد في حياته كلها.

وبما انه لم يكن يعرف اية مهنة فلم يكن له غير المال الذي اعطيه له، من مال ضئيل طبعا. الا انه كان راضيا دائما. واعتقد انه ما كان يمكن ان يعيش دون ان يخدم احدا، وقد فضّلني لانني كنت الطف السجناء معه واكثرهم مكافأة له. ما يميز امثال هذا الرجل هو الغياب التام لشخصياتهم، اذ انهم انهم يفقدونها في اي مكان وزمان، وهم دائما في مكانة ثانية وثالثة. وهذه فطرة فيهم. كنت لا استطيع النظر اليه دون ان يختلج قلبي بالشفقة نحوه." 

عن رواية مذكرات من البيت الميت - دوستويفسكي