الصفحات

30 ديسمبر 2016

رواية الفردوس المفقود - قصاصات

نشر ابليس جناحيه فحلق طائرا في الجوء ينوء الهواء البهيم بحمله ويدرك عبء ثقله الهائل، واخيرا على اليابسة استوى،
ان كانت تلك هي اليابسة حقا!
انها تلتهب ابدا بنيران صلبة، مثلما التهبت بحيرة النار والكبريت بنيران سائلة.
وبدا لونها مثل بركان قوي، تثيره قوى الرياح الحبيسة في باطن الارض، فتنقل التل من مكانه، وتخلف موطن راحة لاقدام لعينة!
وتلاه رفيقه الذي يليه في المنزلة، وقد اسعدهما ان هربا من بحيرة اللهب الجهنمية.
وفي ظنهما انهما قد افلتا بفضل القوة التي عادت لهما، وليس بفضل ما اذن به القوي الجبار.
وهنا بدأ يقول من كان ملاكا اكبر:
اعلينا اذن ان نستبدل هذه البقعة وهذه التربة بجنة النعيم؟
انستبدل هذا البلقع المدلهم بالضياء العلوي الغامر؟
فليكن!
وداعا يا دار الهناء والسرور الابدي!
مرحبا بالدرك الاسفل!
وانت يا اغوار الجحيم السحيقة استعدي لاستقبال سيدك الجديد.
ماذا يضيرني ان اكون هنا او هناك مادمت انا هو انا-
اكاد اضارع من تفوق عليّ بقوته العاتية؟! 
سيد في جهنم اكرم من عبد في الجنة!
ولكن ما لنا خلفنا رفاقنا المخلصين
شركاء الضياع وزملاء السقوط
يرقدون ذاهلين على بحيرة النسيان؟
لما لا نناديهم ليشاركونا تعاسة مأوانا او ليجتمع شملنا ثانية
لنسترد ما تبقى منا في الجنة او نتحاشى مزيدا من الضياع في الجحيم؟

عن رواية "الفردوس المفقود" لجون ملتون

28 سبتمبر 2016

قصاصات : صوت من العالم الاخر

يا الهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات العالم الفانية؟ انه قطعة من قلب الحياة.. رباه! الا زلت اذكر هذا اليوم الذي فصل بين الحياة والموت؟ .. بلى، في ذلك اليوم غادرت قصر الامير قبل الغروب وكانت الشمس قد مالت عن الافق وبقايا من اشعتها تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل فاخذت طريقي المعهود الى بيتي الجميل.. ثم حدث ما ليس في الحسبان.. شعرت بألم شديد.. ما هذا الالم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي سببه جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع، وثابرت وصبرت فغلبت الاعياء العزم .. اما هذا الالم المضني .. هذه الرعشة .. فطارئ جديد.. امتلأت منه رعبا. اخذت الطريق قلقا متأوها .. وعند عتبة البيت طالعتني زوجتي، رفيقة شبابي وام ابنائي وانيسة دربي، فهتفت بي في جزعشديد: 
- توني ايها المسكين مالك تنتفض .. ما لعينيك مظلمتين؟ فقلت لها مكتئبا:
- دثريني، واستدعي الطبيب بسرعة!
ثم هويت الى فراشي وحالا غرقت في ابخرة الحمى.. واشتد الدوار برأسي .. وسال بلساني الهذيان.. وشعرت بيد الموت تمتد الى قلبي.. ما اقساك ايها الموت! اراك تتقدم الى هدفك بقدمين ثابتتين، وقلب صخري.. لا تتعب ولا تسأم و لا ترحم.. لا تهزك الدموع ولا تستعطفك الامال.. تدوس حبات القلوب وتتخطى الاماني والاحلام .. لا زلت في السادسة والعشرين.. الا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت انفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما اشبع من الحياة الجميلة.. لم ازهد فيها بعد.. وليس فيها ما يسؤوني.. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والامال كبارا.. ودار بخلدي اشياء لا حصر لها ولا حد لها بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر واماني المستقبل.. وجرت امام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمأكل والاولاد والالحان والافكار .. والالقاب والفخر والجاه ..وتساءلت:
- ايمضي كل هذا الى الفناء؟
وانقبض صدري وامتلأت حزنا وكمدا وهتفت كل جوارحي:
- لا اريد ان اموت..؟
وتتابعت جحافل الليل فغالب النوم الصغار ولبثت زوجتي عند رأسي وامي عند رجليّ .. وانتصف الليل .. داخلني شعور غريب بالرهبة ، وتولاني احساس بالخوف.. واطبق السكون وانذر بشئ خطير.. ثم شعرت بيد امي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج:
- بني .. بنيّ!
وهتفت زوجتي المحبوبة:
- توني توني .. بماذا تشعر؟
لكنني لم استطع جوابا – لا شك ان امرا استثار جزعهما .. ترى ماذا يكون؟ 

11 سبتمبر 2016

ميلاد فكرة


-    ما هذا الذي يهز جدران رأسي؟
-    فكرة..
-        وماذا تريدين؟
-        الخروج..
-        الان؟.. في جوف الليل ؟ .. والناس نيام، والنعاس يغلق مني الاجفان؟
-        نعم.. الان.. اذا لم اخرج الان فلن اخرج الى الابد..
-        الا ترين اني اتثاءب؟ .. او لا تستطيعين ان تنتظري الى الصباح؟
-        لا استطيع الانتظار.. الان يجب ان اخرج..
-        ولماذا اخترت هذا الوقت الذي اغرق فيه نوما؟
-        لست انا التي تختار، لقد تكونت في رأسك كما يتكون الجنين في بطن امه، ونضجت للنزول..
-        وكيف لم اشعر بك من قبل؟!.. كل ما شعرت به ان رأسي يتصدع..
-        اني اتكون على غير وعي منك.. هيا انهض ايها الخامل وضعني على الورق وانشرني على الملأ..
-        يا لك من مغرورة.. وماذا يجري للدنيا من خروج مثلك الان..
-        من يدري؟.. ربما تغير وجهها..وربما ازداد جمالها.. وربما انقلب امرها اخطر انقلاب..
-        بك انت!
-        نعم.. بي انا..  


توفيق الحكيم

30 أغسطس 2016

نداء استغاثة


كان السيد تيد يقيم خلال الصيف في منزله الهادئ بمدينة ماوث. في هذا المكان، كما يعرف الكثيرون، يعبر الناس النهر بواسطة قوارب خاصة تحمل الركاب الى محطة السكة الحديدية. وتظل القوارب جاهزة لحمل الركاب من شروق الشمس وحتى مغيبها. في احد الليالي بين الثانية عشرة والواحدة بعد منتصف الليل، استيقظ تيد فجأة. لقد سمع صوت بلهجة آمرة يتحدث اليه، كان الصوت واضحا، حتى ان الكلمة الاخيرة ظلت ترن في اذنيه.
"اذهب الى المعدية"
راح يفكر لعله يكون حلم، وغرق في النوم مجددا، عندما عاد الصوت ثانية يقول:
"المراكبي ينتظر"
كان ثمة شئ ما في الصوت الذي سمعه في المرة الثانية، جعل من المستحيل الا يلحظه تيد. حاول تيد الا يطيع الصوت، جلس في الفراش لبضعة دقائق مستيقظا تماما. وفكر في نفسه: "انه من الغباء ان استيقظ في منتصف الليل من اجل صوت وهمي، لاذهب الى رصيف المعديات حيث لن اجد اي قارب في هذا الوقت المتأخر، بغرض اتمام شئ لا اعرف ما هو حتى الان". حاول تيد ان يصرف الفكرة من عقله لكنه لم ينجح. واحس ان النوم، على اية حال، كان بعيد المنال. قام بالتمشية الى رصيف المراكب وعاد ولم يكن بحاجة ان يخبر اي شخص عن رحلته. اخيرا قفز من الفراش، وارتدى ملابسه وانطلق.
قبل ان يصل الى الرصيف كان من المدهش ان يسمع صوت المراكبي الخشن يناديه في الظلام ويتعجله.
"حسنا، انك جعلتني انتظر طويلا الليلة، لقد انتظرتك قرابة الساعة"
بدا ان المراكبي ايضا قد تلقى اوامر هو ايضا، لكنه لم يفكر انه من مصدر غير عادي. لم يجد اي مسافر على هذا الجانب من النهر، من المحتمل انه استدعى من قبل شخص في مركب مبحرة وامر ان يعبر النهر.
قبل ان يصل تيدي الى الجانب الاخر كانت ثمة فكرة قد استولت على عقله.
"اكستر، اكستر، اكستر!" كانت هي الكلمة التي ترن في اذنه مثل جرس الباب. لقد عرف الان الغرض من رحلته الليلية. ومهما كانت طبيعة هذا الهدف فلابد انه سينتهي عند منطقة "اكستر". وبالتالي فالى اكستر ذهب في اول فرصة متاحة. كانت اكستر على بعد 8 او 10 اميال، ووصل المدينة عند شروق الشمس تقريبا.
الان، ولاول مرة، لم يكن يعرف ما عليه ان يفعله. كل الافكار والمشاعر قد اختفت. تجول في المدينة بلا هدف، والقى اللوم على نفسه بشدة. الان اعتبر الامر كله محض اوهام وتهيؤات، ولكنه خفف عن نفسه بفكرة انه في هذه الساعة المبكرة لا يوجد اي شخص يعرفه يسأله اسئلة فضولية عن سبب وجوده بالمدينة. قرر تيدى ان يعود الى مدينته باول قطار، لكن في اثناء ذلك بدأت المتاجر والمنازل تفتح ابوابها، وعندما وصل الى احد الفنادق دخل وطلب افطارا.
كان النادل بطيئا جدا في احضار وجبة الافطار له، لكنه اعتذر قائلا ان سبب تأخيره هو ان الفندق مزدحم على غير العادة بسبب ان كثير من الناس في "اكستر" اليوم بسبب القضايا التي تنظر في المحكمة.           
لم يسمع تيدي عن هذه المحاكمات كما انه لم يشعر باهتمام تجاه هذا الامر. لكنه رأى اهتمام النادل بزيارة القاضي كحدث على درجة كبيرة من الاهمية، وعندما حث النادل ان يحدثه بشأن هذه المحاكمات، قوبل بتاريخ مسل عنها مما اثار اهتمام تيدي بها، وهكذا فبدلا من العودة الى اكسماويث في اول قطار، تمشى حتى مبنى المحكمة ودخل وجلس في قاعة المحكمة.
المحاكمة التي بدأت للتو كانت مثيرة بطريقة غير معتادة. كانت بشأن شخص متهم بريمة قتل. لم يكن احد في الواقع قد رآه يرتكب الجريمة، لكن مما قاله الشهود، بدى انه من المؤكد انه مذنب. كان الامل الوحيد لدى المتهم هو اثبات ان الشهود جميعا يتحدثون عن الشخص الخطأ، واظهار انه لم يكن موجود في مكان الجريمة في وقت حدوثها.
عندما طلب اليه ان يدافع عن نفسه، اجاب بهدوء:
"من المستحيل ان اكون ارتكبت هذه الجريمة، لانه في اليوم وفي الساعة التي حدثت فيه، ارسلت من قبل الشركة لاصلاح نافذة منزل السيد ج. في منطقة م. يوجد شخص واحد ذو جاه" اضاف بعد لحظة صمت، " من يقدر ان يثبت انني كنت هناك، لكنني لا اعرف من هو، ولا اين ابحث عنه. نعم، انا اعرف انه يمكنه ان يثبت انني غير مذنب. يوجد سبب منطقي يجعله يتذكرني. لكني لا اقدر ان افعل اي شئ حيال الامر. الله وحده يقدر". بدا الرجل المسكين مستسلما لقدره.
كل هذا الوقت كان السيد تيد. ينصت باهتمام عميق، وعندما انهى السجين دفاعه الحزين اليائس. رفع السيد تيد.  رأسه فجأة ونظر بعناية اليه. وعندما وقعت عيناه على ذلك الوجه الحزين المنهك، توالت عدة حوادث على ذاكرته. كانت احداث بدت بسيطة عندما وقعت، لكنها الان هامة اذ عليها تعلق حياة شخص.
وما حدث هو ان السيد تيد ، كان قد ذهب قبل عدة اشهر، ليزور صديق في منطقة منهاتن كان الصديق خارج المنزل، لكنه املا ان يراه، انتظر لحين عودته. ولهذا فقد ذهب الى مكتبة صديقه، ناويا ان يصرف الوقت في قراءة كتاب. لكنه وجد هناك شخص يصلح النافذة، وبدلا من ان يقضى الوقت في القراءة وقف بجوار عامل الصيانة لعدة دقائق يراقبه ويتحدث معه بخصوص عمله.
وبينما هو يفعل ذلك، ذكر العامل شئ استدعى ان يدونه السيد تيد، مما جعله يخرج مذكرة من جيبه ولكنه لم يجد قلمه. حينما رأى العامل ذلك اخرج قلما رصاص واعطاه له وقال له انه بامكانه الاحتفاظ بالقلم.
كل هذه الاحداث جالت في ذهنه بوضوح كما لو انها قدحدثت بالامس. بسرعة اخرج مفكرته من جيبه فوجد انه مدون بها الكلمات التي كتبها انذاك بالضبط بما فيها تاريخ اليوم.
في الحال اخبر هيئة المحكمة بالامر. تم فحصه كشاهد، وتبين براءة المتهم ومن ثم اطلق سراحه
اسم القصة: Call to The Rescue
تأليف:  Henry Spicer
ترجمة: بشرى رشدي

10 أغسطس 2016

قصاصات : العطر (2)


في الاول من ايلول كان الاحتفال بتتويج الملك في مدينة باريس التي اقامت احتفاءا بالمناسبة حفلة العاب نارية. لم تلفت نظر غرينوي الصواريخ المنطلقة في الفضاء. فكل ما كان يبرق ويتلألأ وينشر الشرر ويتفجر لم يخلف وراءه سوى خيط من روائح الكبريت والزيت وملح البارود. كان على وشك ان يترك الحفل الممل الى بيته عندما حملت اليه الريح شيئا ضئيلا يكاد لا يلحظ، شذرة، ذرة، رائحة طيبة، كان شيئا اقرب الى الاحساس الداخلي بالطيب منه الى الطيب الحقيقي.. تتبع مصدر الرائحة.. وبعد بضعة خطوات كان ضوء السماء المقمرة الخفيف قد ابتلعته المنازل الشاهقة، فتابع غرينوي طريقه في العتمة ، لم يكن بحاجة للرؤية، لان الرائحة كانت تقود خطاه. ليصل الى باحة وهنا تحت السقف كانت هناك طاولة عليها شمعة مضاء، والى هذه الطاول جلست فتاة تنظف البرقوق. كانت تتناول الثمار من سلة الى يسارها لتقشرها وتنزع البذور ثم تضعها في سطل بجانبها. لم تكن لتتجاوز الثالثة عشرة او الرابعة عشرة. ولبرهة من الزمان كان غرينوي في حالة اضطراب شديد. لم يدم حواسه طويلا. لقد شم الان انها بشر. هذه الرائحة كانت المبدأ الاعلى الذي يجب على الروائح الاخرى ان تصنف نفسها وفقه. اراد ان يدمغ هذا العطر الالهي في فوضى روحه السوداء، ان يتفحصه بمنتهى الدقة. توجه نحو الفتاة ببطء مقتربا اكثر فاكثر. وتوقف وراءها على مسافة خطوة واحدة. لم تسمعه. وقف غرينوي منحنيا فوقها ممتصا بانفه شذاها.. اما الفتاة فحين شعرت بها سرت القشعريرة في بدنها. لم تره بعينيها لكن احساسا بالرعب انتابها. تجمدت من الذعر عندما رأته وهو يمد يديه بهدوء ليحيط بهما عنقها. لم تحاول ان تصرخ او ان تتحرك او حتى ان تقاوم . اما هو فلم ينظر اليها لم ير وجهها الناعم الموشى بالنمش ولا عينيها الخضراوين. فقد اغلق عينيه باصرار وهو يخنقها، اذ لم يكن ثمة ما يقلقه سوى فقدان ذرة واحدة من شذاها.. عندما انتهى من تشممها حتى الثمالة بقى لبرهة يدور حولها محاولا استعادة ذاته المستغرقة فيها. ثم نهض ونفخ الشمعة فاطفأها. في الظلمة تشمم غرينوي طريقه الى الزقاق.
بعد ذلك بقليل تم اكتشاف الجثة واستدعيت دورية الحرس. اما غرينوي فكان على الضفة الاخرى من النهر. في تلك الليلة بدا له مأواه التعس كقصر. ذلك اليوم بالتحديد هو الذي جعله يدرك هويته الحقيقية، وان لحياته معنى ومقصدا وهدفا ومصيرا علويا. لقد وجد بوصلته الحقيقية، بوصلة حياته القادمة. وكسائر العباقرة مد سكة مستقيمة في فوضى الحياة. لم يبتعد غرينوي بعدها قيد انملة عن الاتجاه الذي اعتقد انه سيوصله الى مصيره. يجب ان يصبح مبدعا للروائح. بل اعظم عطار على مر الدهور.
في الليلة ذتها تفقد غرينوي اطلال ذاكرته، متابعا حملته التفقدية حتى في نومه. تفحص ملايين وملايين ادراج الروائح ، مرتبا ومصنفا اياها: الطيبة الى الطيبة، الرديئة الى الرديئة، الفاخرة الى الفاخرة. خلال الاسبوع التالي اصبح الترتيب اكثر دقة. كذلك صار تسلسلها اكثر وضوحا. وسرعان ما اضحى قادرا على تشييد اولى عماراته حسب النموذج الموضوع لها: المنازل، الاقبية، الغرف والحجرات السرية، قلعة لاروع الروائح، تتوسع وتزداد دقة وجمالا يوما بعد يوم.
لم يبد غرينوي ادنى اهتمام بالجريمة التي بدأت بها رحلة الروعة هذه، لقد نسى حتى شكل الفتاة، اذ ان افضل ما فيها محفوظ لديه، انه اصل شذاها.
في تلك الايام كان في باريس ما ينوف عن عشرة عطارين نصفهم كانوا على الضفة الشرقية للنهر والنصف الاخر في الضفة الاخرى. كان متجر بالديني على الجسر الذي يربط الضفتين. اما بالديني نفسه فكان يقف خلف المكتب المصنوع من خشب الزان الفاتح اللون، طاعنا في السن وجامدا كعمود اثري. كان العطر الذي يرش به نفسه يوميا يتشكل حوله كغمامة تكاد تكون منظورة.. ورغم ان كل بضاعته كانت من افخر الانواع الا ان اختلاط روائحها كان غير محتمل على الاطلاق تماما كمن يستم الى اوركسترا من الف عازف كل منهم يعزف لحنه الخاص، وباعلى طبقة ممكنة، بالديني ومعاونوه كانوا قد اعتادوا على هذا حتى زوجته التي كانت تسكن بالطابق الثالث لم تعد تنزعج من كثرة الروائح. اما الزبون الذي يدخل متجر بالديني للمرة الاولى فحاله مختلف لانه كان يتلقى خليط الروائح هذه كلكمة في وجهه وهي حسب لياقته البدنية – اما ان تثيره حتى التهيج او تدوخه وتتركه مضطربا، لكنها على اية حال كانت تنسيه سبب قدومه. السعاة كانوا ينسون طلباتهم اما السيدات فغالبا ما كن يصبن بحالة هستيرية تماثل الخوف من الاماكن المغلقة.
ان الابتكار بالنسبة له كان امرا مشكوكا في امره لانه كان يعني دائما خرق قانونا ما ..  في مطلع العشرينات حينما كان في بداية سلم مهنته يجوب الشوارع بصندوقه المحمول، كان بالكاد يدبر اموره المالية وهو يدور من منزل الى منزل مروجا لبضاعته.
ما جنون السرعة هذا! ما حاجة الانسان الى كل هذه الشوارع الجديدة التي تشق في كل مكان، والى كل هذه الجسور الجديدة؟! من هوة المستفيد من ذلك؟ ومن الذي سيأبه الى ذلك؟ وما جدوى ان تسرع كالمجنون في عبور الاطلسي لتصل الى امريكا؟ الم يكن البشر بخير ال ولالاف السنوات بدون هذه القارة! عما يبحث الانسان في غابات الهنود العذراء او عند الزنوج؟ لقد وصل الى هناك في الشمال في انتركتكتا في الجليد الابدي حيث يعيش بشر متوحشون يأكلون السمك النيئ. كما ارادوا اكتشاف قارة اخرى يقال انها في الجنوب في مكان لا بعرفه الا الله. ما سبب هذا الجنون؟ الاسبان والانجليز والبرتغاليون والهولنديون الوقحون. لسبب كهذا ستضطر بلادنا لخوض المعارك معهم، وهذا ما لا طاقة لنا عليه اطلاقا. السفينة الحربية تكلف ليس اقل من 3 الاف فرنك لتغرق الى الابد خلال خمس دقائق وبطلقة مدفع واحدة.
ان تعاسة الانسان تنشأ من كونه لا يريد ان يقبع ساكنا في غرفته ، هناك حيث يجب ان يبقى. هكذا يقول باسكال. باسكال كان رجلا عظيما لكن امثاله ما عادوا مرغوبين اليوم. فاليوم اصبح الناس يقرأون كتبا غثة او يكتبون بحوثا مختصرة يشككون فيها في كل شئ مهما كان زاعمين انه لم يعد ثمة ما هو صحيح!
لم يعد يكفي ان يقول المرء ان هذا هو هكذا، بل اصبح من الضروري البرهنة على كل شئ. ويفضل ان يكون هذا بالادلة والارقام وبنوع من التجارب السخيفة. ان بعض الكتاب قد تمكن من نقل اضطرابهم الداخلي وتلك الفوضى التي لا حدود لها والتي تعشش في رؤوسهم الى المجتمع كله. وان تدخلت الشرطة ذات مرة وسجنت احد هؤلاء الافاقين بدأ الناشرون بالعويل وبتقديم طلبات الاسترحام. حتى دردشة الصالونات لم يعد موضوعها سوى مسارات المذنبات والحملات الاستكشافية والقوة الرافعة ونيوتن وطول قطر الكرة الارضية. حتى الملك نفسه سمح بان يقدم امامه عرض مجنون لنوع من البرق الاصطناعي يسمى الكهرباء، لو كان جده الاول لويس حيا، هل كان سيسمح بمثل هذا العرض التافه امام ناظريه! لكن هذا هو روح العصر الجديد وستكون العاقبة وخيمة على مختلف الاصعدة.
عندما يصل الامور الى هذا الحد،- لا سمح الله! - لا حاجة للمرء ان يتعجب من انقلاب كل شئ رأسا على عقب..  ان القرن القادم سيكون قرن التفسخ والتردي الفكري والسياسي والديني الذي ستغرق فيه البشرية تحت بريق و زيف بعض ازهار المستنقعات..!
وقف بالديني العجوز عند النافذة مادا بصره باتجاه الشمس المائلة فوق النهر .. تحته ظهرت السفن والقوارب منسابة بهدوء .. ليس ثمة من يبحر هنا بعكس التيار.. كل شئ يسري مغادرا، كل شئ يجري بعيدا ، بهدوء، وباستمرار حتمية. شراء هذا البيت على الجسر كان غلطة .. واحس بالديني بانه هو وبيته وثروته التي جمعها تنجرف مع النهر، وبانه قد بلغ من العجز والضعف حدا لن يستطيع معه مقاومة هذا التيار الرهيب.
احيانا ، عندما كان لديه ما ينجزه على الضفة اليسرى، يتعمد ان يأخذ الطريق الاطول فوق جسر نوف الذي لم يكن معمورا بعد. وكان يقف حينئذ على الحاجز الايمن لينظر الى النهر مندفعا باتجاهه، وللحظات قصيرة كان يترك لخياله العنان ليتصور ان اتجاه حياته قد انعكس وان تجارته تزدهر وان ثروته تزداد يوما بعد يوم.
كان قارورة من عطر بيلسييه منتصبة امامه، والسائل الذهبي يتلألأ في نور الشمس صافيا دون عكر. هذا المزيج قد يشتمل على ثلاثة او ثلاثين مادة مختلفة مركبة مع بعضها وفق معدلات ونسب محددة وباحتمالات خلط لا تحصى. ادار سدادة القارورة قليلا ورفعها. خلال ذلك ابقى بالديني رلأسه بعيدا وفتحتى انفه مضغوطتين، فالعطر يجب ان يشم في حالة انتشاره مع الهواء وليس كمحلول مركز ابدا. نثر بعض القطرات على المنديل ثم حرك المنديل عبر الهواء ليطرد الكحول وقربه من انفه. عبّ نفسا عميقا وراح يزفره ببطء على دفعات كمن يصعد درجا طويلا. كان العطر كلاسيكيا ورغم ذلك كانت جدته مذهلة. كتن منعشا وليس مدوخا، فواحا وليس نفاذا. كان يمتلك دفئا رائعا معتدلا بغير تبرج او ابتذال.
"رائع.. رائع" له خاصية مرحة، محببة ، كلحن موسيقي، بل انه يعدل المزاج.. ما هذا الهراء، نمزاج معتدل!" قذف المنديل على الطاولة وكأنه خجل من الاعجاب بالعطر.
"انما انت يا بالديني فانه لن يضلك. للحظة عابرة فقط فاجأك الانطباع الذي خلّفه هذلا المركب العطري. ولكن هل يعلم المرء كيف ستكون رائحته بعد ساعة، عندما تطير مكوناته الاثيرية ولا يتبقى منها الجوهر؟ . القاعدة الثانية تقول بان العطر يعيش مع الزمن. كم من مرة خلطنا فكانت رائحة مزيجنا عند التجربة الاولى منعشة رائعة لتفوح منه بعد فترة قصيرة رائحة الفاكهة العطنة، ثم رائحة الزباد المقرفة. سنتشممه وكما ينزل الفأس الحاد على الحطبة ليجزئها الى قطع ، هكذا سيكون مفعول انفي في فصل اجزاء عطره عن بعضها البعض. انا بالديني سأنزع القناع عن سحنته.. سأقلده بمنتهى الدقة ، نسخة طبق الاصل لا لن اكتفي بهذا بل سأحسنه ، سأثبت له اخطاءه فاتداركها سأضع العطر بالصيغة الجديدة تحت انفه واقول له: يا بيليسيه انت اخرق انت متسلق متطفل على حرفة العطارين ولا شئ سوى ذلك.
فالى العمل يا بالديني.. اندفع عائدا الى طاولته. اخرج ورقا ومنديلا جديدا. رتب كل شئ في مكانه الصحيح وبدأ بعمله التحليلي. كان يمرر المنديل الجديد المحمل بقطرات العطر بسرعة تحت انفه ليلتقط من غمامة العطر هذا او ذاك المكون ثم يمد ذراعه ليدون على الورق اسم المكون الذي التقطه.. عمل لساعتين دون انقطاع وبمرور الوقت اصبحت حرلاكاته محمومة وكتابته على الورقةى كالخربشة.
ما عاد يشم اي شئ فقد خدرته المواد الاثيرية التي استنشقها، ولم يعد قادرا على تمييز ما ظن في بداية تجربته انه قد توصل الى حديد مكوناته بدقة. انه لن يتوصل الى معرفة تركيب هذا العطر. اليوم على الا قل لن يتوصل الى شئ ولا غدا عندما يرتاح انفه ان شاء الله.
 اعاد سدادة القارورة الى مكانها، وضع القلم من يده ومسح جبينه للمرة الاخيرة، ثم غابت الشمس. رأى هالة الشمس الحمراء القاتمة وراء اللوفر، ووفوق اسطح منازل باريس المائلة والنهر في الاسفل بعد خلوه من السفن تقريبا يبرق كالذهب، ومؤكد ان الريح قد خفت فهباتها كانت تصطدم بسطح الماء فيتلألأ هنا وهناك وكأنما هناك يد هائلة تنثر ملايين القطع الذهبية في الماء. وبدا اتجاه النهر للحظة وكأنما قد انعكس تيار هائل من الذهب الصافي يندفع نحوه.
كانت عينا بالديني دامعتين وحزينتين. وقف لبرهة ساكنا متأملا الصورة الرائعة. ثم فجأة دفع درفتي النافذة عن اخرهما ورمى قارورة بيليسييه بقوس واسع في الماء. رأى اصطدامها بالماء ممزقة للحظة البساط المائي المتلالئ.
اصبح جو الغرفة مقبضا. "لن ارسل احدا الى بيليسيه غدا" "لن افعلها. سأبيع بيتي ومتجري واشتري منزلا اخر في ايطاليا بسعر ارخص. هذا هو ما سأفعله وكفى".
اكتسى وجهه بملامح شاب معاند حرون، وفجأة احس بالسعادة تجتاحه. لقد عاد ثانية الى كونه بالديني العجوز الشاب الشجاع المصمم على مناطحة القدر – حتى لو كانت الهزيمة جلية. وان يكن! لم يكن امامه سوى ذلك. فهذا الزمن الغبي لم يترك لنا اي خيار اخر. "الرب يمنحنا ايام عسر وايام يسر، لكنه لا يريد منا في زمن العسر ان نندب وننعي بل ان نتصرف برجولة. ولقد اعطانا الرب اشارته فصورة المدينة المزيفة ، الذهبية الحمراء كالدم كانت تحذيرا. يعني ان عليك التصرف قبل فوات الاوان فالمنزل لا زال قائما وما زال بوسعك التوصل الى سعر مناسب لتجارتك المتدهورة. ان تقضي ما تبقى من عمرك في ميسينا بتواضع لم يكن هدف حياتك. لكنه اكثر احتراما واقرب الى مشيئة الله من ان تسقط من العلياء الى الحضيض في باريس.
***
 كان في هذه اللحظة فخورا بنفسه ومرتاحا بلا حدود واختفى تصلب الشيخوخة الذي كان يصلّب الرقبة ويحني الكتفين نحو الامام بحيث يبدو للمرء كالمستعطف. فانتصب قائما دون جهد. سيصعد الان ليخبر زوجته بالامر، وليعرج من ثم الى كاتدرائية نوتردام ليشعل شمعة حمدا للرب على هدايته وعلى القوة الخارقة التي بثها فيه.
ما كاد يصعد الى الطابق الثاني حتى سمع صوت الجرس. اصاخ السمع. صل الجرس مجددا. يبدو ان الخادمة لم تذهب لتفتح الباب . نزل بنفسه ليفتح الباب. سحب المزلاج وشرع الباب لكنه لم يرى احدا. ابتلع الظلام ضوء الشمعة التي بيده عن اخره ثم وبعد لحظات تبين وجود شبح ما، غلام او شاب..
"اريد ان اشتغل عندك ، ايها المعلم بالديني. هنا في محلك اريد ان اشتغل".
لم يكن في قوله هذا يستخدم نبرة الترجي بل الامر. لم يكن مخرج كلماته طبيعيا بل اشبه ما يكون بفحيح الافعى.
ابتسم بالديني في وجهه قائلا:
- "انت اجير دباغ يا بني. وانا لست بحاجة الى اجراء. لدي مساعد واحد وهو كاف".
- "امامك افضل انف في باريس"
- "الموهبة لا تساوي شيئا يا فتى. المهم هو الخبرة التي تكتسبها بتواضع وجهد".
- "اعطني عشر دقائق وسأجهز لك عطر بيلسييه. الان مباشرة. يا معلمي اعطني خمسة دقائق.
- "هه" صاح بالديني وهو يزفر كل ما في صدره من هواء دفعة واحدة. ثم عب نفسا عميقا ، اطال النظر وفكر. ما الغلط ان اتأكد بعيني مما اعرفه بنفسي؟ الامر كله غير ممكن ، وبعد كل ما يشير به عليّ عقلي اجد الامر مستحيلا. لكن المعجزات موجودة. وهذا ثابت لا شك. ان جاء يوم وانا في مسينا وانا على فرالش الموت وحضرتني فكرة اني وقفت ذات يوم امام معجزة وجها لوجه واغمضت عيني..؟ لن يكون الامر مريحا ابدا. فليعبث هذا المجنون بقطرات زيت الورد وصبغة المسك، ان كان عطر بيلسييه يهمك فعلا. فانت كنت ستهدرها بنفسك! وما قيمة بضع قطرات- كم تساوي بالقياس الى تأكد الانسان من ظنه واجتيازه عتبة الحياة براحة.
- " اسمع " قال بالديني بصوت يتصنع الزم. اسمع انا.. ولكن ما هو اسمك؟
- "غرينوي"
حسنا اسمع يا غينويي سأمنحك فرصة لتثبت زعمك .. وهي في الوقت نفسه فرصة ستتعلم منها بفشلك الزريع فضيلة التواضع التي لا تمتلكها بعد. بحكم صغر سنك. ولك العذر في ذلك. لكنها الشرط الذي لا مفر منها لمستقبلك المهني وكزوج وكمواطن صالح وكانسان وكمسيحي متدين انا مستعد لتزويدك بهذه الموعظة مجانا. فمزاجي ميال للكرم هذا المساء. لاسباب خاصة طبعا. ولكن اياك ان تظن انك قادر على خداعي واخرج منديلا من جيبه ملوحا به وقال:
"تقدم يا افضل انف في باريس. تقدم وارني ما تقدر عليه.
وفي لحظات كان العطر جاهز.. وضع غرينوي الزجاجة. سحب عن عنقها يده المبللة بالعطر. تراجع خطوة او اثنتين الى الوراء وهو يقول: "انه جاهز" وبينما كان يتكلم تضوع هواء الغرفة حوله بالعطر. ولعبق الرائحة الطيبة قدرة على الاقناع اقوى من الكلمات ونور العين والشعور والارادة. انها قدرة على الاقناع لا تقاوم. انها تتغلغل فينا كما يتغلغل الهواء في رئتينا انها تملؤها تتعشق فينا وليس من وسيلة لدرئها.
بدأ بالديني العظيم في جلسته صغيرا شاحبا وسخيفا وهو يمسك بيده منديله الصغير وقربه الى انفه بعد ان وضع قطرة من العطر عليه .. تشممه ثم ضغطه على انفه كفتاة اصابها الزكام. وهو يقول "غير معقول" عدة مرات.. ثم كمن افقده العطر القدرة على الكلام لم تعد تصدر منه كلمة "غير معقول" بل فقط "همم همم.. "
اقترب غرينوي وهو يقول "انه عطر ردئ"
"اعطني فرصة لاحسّنه . دقيقة واحدة."
كان العطر بالغ الروعة لدرجة ان اغرورقت عينا بالديني بالدموع. اغلق عينيه تاركا العنان لذكريات باهرة. لم يكن هذا العطر كالعطور التي عرفها الانسان حتى الان. انه شئ جديد كل الجدة. عالم قائم بنفسه. عالم سحري. ينسي المرء كل القرف المحيط به ويجعله يشعر بالغنى والارتياح والانعتاق والسعادة.
عندما جلس مع زوجته للطعام في الطابق العلوي لم يفه بكلمة ولم يذكر لها قراره النهائي الحاسم الذي اتخذه بعد الظهر.
***
عاد الى حانة حيث جرع زجاجتى نبيذ اخريين ثم انتقل عند الظهر الى حانة الاسد الذهبي حيث اخذ يسكر بلا حدود لدرجة انه في وقت متأخر من الليل عندما اراد العودة الى حانة برج المال ظن ان شارع "نوتن هو شارع "جفرو" وبدلا من ان يصل مباشرة الى "جسر ماري" كما كان يأمل ساقه قدره المحتوم الى رصيف شجرة الدردار حيث سقط بطوله ووجهه يتقدمه في الماء كمن يرتمي على سرير مريح . مات من فوره . اما النهر فقد احتاج لمدة اطول بكثير ليبعده عن الضفة الضحلة متجاوزا به سفن الشحن الراسية.
كان لدى بالديني مشروعا حمله بين جنباته كالمرأة الحبلى، تواقا لولادته. كان هذا المشروع هو انشاء مصنعا للعطور .
***
كان ضوء القمر الذي يجهل الالوان ويرسم معالم الارض دون تزويق ضوء القمر الذي يجلل الارض بلونه الرمادي الوسخ ويخنق الحياة ولو لليلة. هذا العالم المسكوب كالرصاص، الذي لا تتحرك فيه سوى الريح التي تغطي الغابات الرمادية التي تبدو احيانا كالظل، هذا العالم الذي لا يحيا فيه سوى روائح الارض الجرداء هذا العالم وحده هو الذي كان يعترف به لانه يشبه عالم روحه.
انقضى اسبوع دون ان يقابل اي انسان وكاد ان يقتنع بانه الوحيد على هذه الارض المعتمة التي لا ينيرها سوى ضوء القمر البارد.
عندما اشرقت الشمس كان غرينوي لا يزال في البقعة نفسها رافعا انفه في الهواء محاولا بجهد اليائس التقاط الاتجاه الذي يتهدده منه خطر البشر، والاتجاه المعاكس الذي عليه متابعة فراره فيه. في كل اتجاه كان يرتاب .. لكنه لم يجد شيئا. ل يكن هناك سوى السكون في كل مكان سيطرت رائحة متجانسة صادرة عن الصخر الميت والنتوءات المكشرة والعشب الجاف تهف كنسمة خفيفة ولا شئ سواها.
احتاج غرينوي لفترة طويلة كي يصدق ما يراه. لم يكن جاهزا بعد لسعادته. لذا طالت مقاومة شكوكه لعقله. وعند الغروب بدأت شكوكه تتراجع مفسة المجال امام احساس متعاظم بالنشوة: فلقد افلت. انه وحده في العالم. وحيد تماما.
تصاعدت من اعماقه فرحة هائلة. كفرحة من نجا من سفينة غارقة فرأى جزيرة مأهولة بعد اسابيع طويلة من الضياع في البحر. هكذا كانت فرحة غرينوي بالوصول الى جبل الوحدة. صرخ من فرط السعادة. اخذ يخبط بقدميه، رافعا ذراعيه، راقصا دائرا حول نفسه، صائحا باسمه في الجهات الاربع. ضاما قبضتيه هازا اياهما بحماس في وجه الارض الشاسعة الممتدة تحته وفي جو الشمس الغاربة بانتصار، وكأنه هو الذي طردها من السماء، ظل هكذا يتصرف كالمجنون حتى انتصف الليل مقتنعا بأنه لن يغادر هذا المكان المبارك ابدا.
في اليوم التالي بدأ بالبحث عن الماء، ووجده في شق صخرة تحت القمة بمسافة قليلة، ينساب كشريط رفيع على الصخر. لم يكن كافيا لكنه اذا استمر في لعقه لساعة من الزمن فسيشبع حاجته منه ليوم كامل. كما وجد الغذاء ايضا كالعشب والتوت البري. اكتشف بالقرب من مكان الماء نفقا طبيعيا يؤدي بعد عدة انعطافات كثيرة الى فسحة ترابية ضيقة. لامس كتفا غرينوي الصخر الى الجانبين، بوسعه ان تكور على نفسه ان يستلقي وفي هذا كان اقصى مبتغاه فيما يخص الراحة والنوم. استلقى في اكثر الجبال وحشة ووحدة. على عمق ثلاثين مترا تحت السطح استلقى كمن يرقد في قبره الخاص. لم يسبق له في حياته ان شعر بالامان كالان. ولا حتى في بطن امه. لو احترق العالم في الخارج فانه هنا لن يلاحظ ذلك. اخذ يبكي بصمت. كان ممتنا الى اقصى حد لهذه السعاة التي تغمر.
معروف ان هناك اناسا يبحثون عن الوحدة كالقديسين والتائبين. وهم غالبا م ينسحبون الى الصحراء حيث يقتاتون الجراد والعسل البري. بعضهم يعيش في المغاير او الصوامع او في جزر نائية او على اعمدة صخرية. وهم يفعلون ذلمك ليمكونوا اقرب الى الله. بالوحدة يزهدون في رغباتهم ويحققون التوبة ، منطلقين في ذلك من اعتقادهم بانهم هكذا لا ينشغلون عن الله بشئ سواه.
لا شئ من ذلك يشغل غرينوي فهو ليس تائبا ولا قديسا ، فقط لمتعته الذاتية الخاصة اعتزل العالم كي يكون بقرب نفسه. كان يستلقي في مقامه الصخري، يكاد لا يتنفس، ويكاد قلبه لا ينبض، حيا بعمق، منغمسا في تأملاته او بالاحرى تخيلاته ما ينوف عن العشرين ساعة كل يوم ، كما لم يسبق لاحد ان عاش.
ولم يكن مسرح هذه التخيلات الطليقة بطبيعة الحال سوى مملكته الداخلية . كم كان لذة الشعور بالارهاق الناتج عن الانجاز.

عن رواية العطر - قصة قاتل

رواية العطر - قصة قاتل


الرواية لم أقرأها في البداية، فقد سبقها مشاهدتي الفيلم المذهل إخراجا وتصويرا وآداءا الذي يصور احداث الرواية. هذه الرواية من اروع الروايات التي قرأتها، ولو كان هناك درجات للتقييم اكثر من خمسة نجمات لمنحتها اياها.
الرواية تروي قصة حياة صبي يتيم ولد بدون رائحة كباقي الاولاد - بحسب وصف المرضعة التي عهد اليها برعايته، ومؤلف الرواية "باتريك سوزكيند" يذكر القارئ بمدى قوة تأثير حاسة الشم على الانسان. على الرغم من أن جان غرينوي واحد من أسماء كبيرة في الخيال المعاصر، الا ان الرواية قدمت صورة مذهلة عن رائحة يبدو انها من ذلك النوع الذي لا يمكن تقدير حجمه في معظم الاشياء، رائحة الانسان.

غرينوي، بطبيعة الحال، شخصية قاتل، وسوزكيند يأخذنا للرعب حرفيا في فترات مختلفة في جميع أنحاء القصة. ومع ذلك، على الرغم من الطريقة التي يصف بها مشاهده، فان سوزكيند يقدم غرينوي كبطل لا جدال فيه ويجعلك، على أقل تقدير، متعاطف معه إن لم يكن بنوع من الشفقة، فبنوع من الاعجاب كرجل فريد يمتلك قدرات خاصة.
وبما أن العنوان الفرعي للكتاب هو "قصة قاتل"، فأنا لا أعتقد أنه يعطي أي شيء بعيدا إلى القول بأن ذروة الكتاب هي في سرد جرائم القتل الوحشية حيث قدم سردا لـ 25 واقعة قتل لسيدات. أن غرينوي يستخدمها لتكوين افضل العطور ذات الرائحة الأكثر مثالية في العالم. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهها، يطارد حلمه ولا يتردد ابدا في سعيه من اجل تحقيق حلمه، والذي في جوهره، شيء فانتازي لاقصى حد.


نهاية الرواية مجنونة حقا، ولكنها تأتي بشكل رائع جدا. من الصعب تقريبا أن نقبل بأن ما حدث هو حقيقي وليس نوعا من الحلم (وهو ليس كذلك). ويترك القارئ في انتظار اللحظة التي يفتح بطل  الرواية غرينوي عينيه ويقول لنا ما حدث فعلا، لكنه لن يأتي أبدا. مقارنة بذروة الرواية او حبكتها، كانت خاتمة القصة تقريبا تصل الى الكمال، في أية قصة أخرى سوف تنظر إليه على أنه مجنون إن لم يكن أكثر من ذلك. ولكن لا تدع ذلك ينتقص لك من قراءة الرواية. هذا صحيح، عليك إما ان تحبهها أو تكرهها، ولكن لا يهم ذلك لانك لن تقول ابدا ان قراءتي لها لم تكن ذات نفع.

العطر - قصة قاتل ج1


 ظهرت يد الرضيع من تحت الغطاء، صغيرة ووردية اللون واخذت بين الفينة والاخرى ترتجف عند ملامسة خده. ابتسم وهو يشعر بالراحة تغمره فجأة. وللحظة تناول الطفل ووضعه على ذراعيه وهدهده برقة، وارتاح لهذه الفكرة. فهي فكرة رائعة, اب يهدهد ابنه ، انها لصورة قديمة قدم الحياة، ومتجددة في الوقت نفسه طالما ظلت الحياة، عندها شعر وحيد بالدفء يملأ قلبه وبالعاطفة تجتاحه.
عندئذ استيقظ الطفل واول ما استيقظ منه كان انفه الضئيل ، استنشق الهواء، وزفره بدفعات قصيرة وكأنه يعطس، ثم فرك انفه وفتح عينيه. كان لون عينيه يشبه لون الرخام الابيض وتشعان بنور صاف. سمع الدوي مجددا .. في الحال تبخرت فكرة الحياة الشاعرية حول علاقة الاب بابنه وضاعت معها رائحة الام الطيبة. وشعر بنفسه كمن انتزع من غلالة الافكار الحالمة التي احاط نفسه والطفل  بها في خياله.. وضع الصغير في مهده ونهض بحركة سريعة .. عندئذ بدأ الطفل بالبكاء، فرك عينيه بظهر احدى يديه الصغيرتين، فتح حلقومه الاحمر على اوسع مداه، واطلق عقيرته بالبكاء جعل وحيد يجفل فمد يده وتناول الطفل مهدهدا اياه وصارخا بصوت يعلو على صراخ الطفل: "دادا دادا" محاولا اسكات الطفل. لكن صراخ الطفل ارتفع وازرق وجهه وبدأ كأنه سيتوقف عن التنفس، الامر الذي جعل الدم يتجمد في عروقه.. يقرر ان يسلم الرضيع لبيت رعاية.. ليس هناك سوى مدام كلارا..
اما مدام كلارا فعندما كانت طفلة تلقت من والدها ضربة ادت الى فقدانها البصر باحدى عينيها. مع هذه الضربة اصبح الحنان غريبا عنها والفرح كاليأس.. ومرت الايام واصبحت مسئولة عن بيت للايتام. وفي ادارتها لهذا البيت كانت تمتلك مفهوما خاصا للعدالة، فهي لم تفضل طفلا على اخر. كانت تقدم ثلاث وجبات يوميا للاطفال دون ان تضيف ولا قطعة خبز بينها. كانت تحفّض الصغار ثلاث مرات يوميا حتى انقضاء العام الثاني من عمر الطفل. اما من استمر بعد ذلك في تلويث ثيابه فقد كان يتلقى توبيخ و صفعات ووجبتين لا اكثر. كانت تنفق نصف الدخل على اطفال ملجئها والنصف الاخر بكامله تحتفظ به لنفسها.. كانت دائما  انها لم تضف قرشا واحدا للمصاريف حتى لو تعلق بمسألة حياة او موت ، فهي بحاجة للمال وقد حسبت الامر بمنتهى الدقة. كانت تريد ان تضمن من المال ما يؤمّن لها ان تموت في منزلها، لا ان تموت في "مستشفى نزل الرب" المتواضع كزوجها. ان موته لم يخلف عندها اية مشاعر، لكنها ارتعبت من هذا الموت العلني امام عشرات من الغرباء.
عند هذه السيدة - التي لا روح لها - نمى الصغير. كان جسمه شديد المقاومة: فمن ولد مثله في وسط القمامة وعاش ، بالتأكيد لن يقوى عليه الموت بسهولة. كان قادرا على الاكتفاء بحساء الخضار اياما طوالا او بافقر انواع الحليب. وخلال سنوات طفولته تمكن من ان ينجو من امراض الحصبة و الدرن والالتهاب الرئوي وغيرها من الامراض المستوطنة. كما نجا مرة من السقوط من الطابق الثالث ، وفي مرة اخرى من الارتطام على الدرج، ومن انسكاب الماء المغلي على صدره. صحيح ان اثار ذلك ظهر في ندوب واخاديد وفي قدم عرجاء لكنه عاش. كان شديد المقاومة كالبكتريا المقاومة للعقاقير . كان جسده قادرا على الاكتفاء بالحد الادنى من الغذاء والملبس.
ما ان انقطع الراتب السنوي الذي يصلها نظير رعاية غرينوي، اقتادت الصبي باتجاه المدينة. كانت تعرف بالقرب م النهر دباغا يدعى غريمال . كان مشهورا بحاجته الى الاطفال كايد عاملة، لا كتلاميذ او متدربين، بل كعمال باجر زهيد. والمعروف عن اجواء هذه الحرفة ان فيها اعمالا شاقة كسلخ الجلد ومزج سوائل الدبغ والتلوين السامة وتشريب الجلد بالقلويات وكلها امور خطرة لا يجازفلا المعلم بتعريض حياة تلاميذه لها ان امكن بل يعتمد على حثالة العاطلين عن العمل او على الاطفال الذين لا يسأل عنهم احد. كانت مدام كلارا تعرف ان لا فرصة امام غرينوي للبقاء على قيد الحياة ، ولكنها لم تكن تشغل بالها بمثل هذه الافكار، فهو ان عاش فهذا حسن وان مات فهذا حسن ايضا. فبقاء غرينوي كان سيعرض مستقبل الاطفال للخطر بل مستقبلها هي، اي موتها الخاص المضمون والذي ليس لديها ما تامله في الحياة سواه.غل بالها بهذه الافكار فقد ادت واجبها تجاه رعايته اما ما يحدث منذئذ فهذا ليس من شأنها.
وبما اننا عند هذه المرحلة من قصتنا سنترك مدام كلارا دون ان نلتقي بها مرة اخرى فيما بعد فاننا نود ان نكرس بعض السطور لوصف اخر ايامها. ان مدام كلارا - التي ماتت من الداخل منذ طفولتها- امتد بها العمر طويلا، بل طويلا جدا. عندما شارفت على السبعين تخلت عن مهنتها واكتفت بالراتب التقاعدي الشهري الذي تتقاضاه، وقبعت في منزلها منتظرة الموت. لكن الموت لم يأت. بل جاء بدلا منه ما لم يكن في الحسبان، وما لم يسبق ان وقع في هذا البلد ابدا، اي الثورة! وما تبعها من التبدل السريع في الاحوال. في البداية لم يكن لهذه الثورة اي تاثير مباشر على مصير مدام كلارا و لكن فيما بعد – عندما قاربت الثمانين من عمرها – سمعت بان المسئولين عن راتبها التقاعدي قد اضطروا للهجرة وان املاكهم قد صودرت ولفترة قصيرة لم يكن لهذا التحول اي اثر على احوال مدام كلارا لانها ظلت تتقاضى راتبها في ميعاده. ثم جاء اليوم الذي تسلمت فيه راتبها على شكل اوراق صغيرة مطبوعة بدلا من القطع المعدنية المصكوكة. انئذ بدأت نهايتها المادية . فبعد مرور عامين لم يعد الراتب يكفي لشراء ضروريات الحياة. ولذا وجدت مدام كلارا نفسها مضطرة لبيع اثاث بيتها ثم بيتها نفسه وبسعر بخس اذ فجأة كان هناك الالاف ممن اضطروا لبيع  بيوتهم. وللمرة الانية تلقت مدام كلارا المبلغ بهذه الوريقات السخيفة التي فقدت بدورها قيمتها بعد مدة تقل عن سنتين. وعندما شارفت على التسعين كانت قد فقدت كل ممتلكاتها الدنيوية التي بذلت في سبيلها الجهد الجهيد، لتسكن حجرة مفروشة في شارع.
وعندها فقط جاء الموت المتأخر عشرة بل عشرين عاما في شكل مرض سرطاني قبض على حنجرتها فسلبها الرغبة في الطعام ثم القدرة على النطق، بحيث لم يعد بامكانها الاحتجاج ولو بكلمة واحدة عندما اودعوها في مستشفى "نزل الرب" حيث وضعوها في نفس القاعة المزدحمة بمئات المرضى المشرفين على الموت، حيث مات زوجها .. وعندما ماتت نقلوها مرافقة برنين جرس خافت الى المقبرة التي تبعد ما يقارب ميل واودعت في مثواها الاخير.
***
اما غرينوي فقد انتقل لعمل مع دباغ. مع النظرة الاولى التي القاها غرينوي عرف ان هذا الرجل لن يتورع عن ضربه حتى الموت لابسط عصيان قد يصدر منه. وهكذا انكمش على نفسه وبمرور الايام ازداد انغلاقه على نفسه، كابتا في اعماقة الرفض والتمرد الذي يعتلج في صدره. كان يتلقى الامر فينفذه في الحال.
في  الحواري المتفرعة من شارع سان جان ومن شارع سان مارتان كان الناس يعيشون الى جانب بعضهم بكثافة كبيرة بحيث تزاحمت البنايات فبلغت الى ارتفاع خمسة الى ستة طوابق حاجبة عن الانسان رؤية السماء، كما كاد الهواء بالاسفل يتجمد من كثرة الروائح فاختلطت روائح البشر بروائح الحيوانات الى جانب السديم المتشكل من ابخرة الطعام والمياه والاحجار والرماد والغبار والقش الرطب والجاف. لتكون خليطا لا مرئي يملأ الازقة ..اما غرينوي فقد شم كل شئ وكأنها المرة الاولى وهو لم يشم خليط الروائح في كليته بل حلله الى تفرعاته وجزئياته الاصغر فالاصغر. كان انفه الحساس قادرا على فك الكتلة المؤلفة من الروائح الى خيوط روائحها البسيطة وكم كانت متعته هائلة بلف هذه الخيوط واعادة نسجها على هواه. كان كثيرا ما يقف متكئا على جدار احد البيوت بعينين نصف مغمضتين وفم نصف مفتوح ومنخارين منتفخين، متربصا كسمكة مفترسة في عتمة المياه الجارية ببطء. وقف على لسان "ساحة " الذي كان يبدو كلسان هائل يلحس ماء النهر، فهنا كانت ترسو السفن التي تفوح منها روائح الفحم والحشائش الجافة والحبال الندية.
شم ايضا روائح فاخرة ومركبة من المسك والنرجس والياسمين. روائح تخلفها عربات النبلاء وراءها كوشاح ثقيل يداعبه النسيم. لم تختلف قيمة الروائح لديه ولم يعرف بعد ما هو الطيب منها وما هو الكريه. ولم يتوقف لحظة عن تصنيع مركبات عطرية جديدة في مخيلته. لم يكن غرينوي قد امتلك بعدج مبدأ جماليا كدليل لعملياته بعد. فجاءت ابتكارالته غريبة شاذة . سرعان ما كات يخربها كطفل يلعب لعبة البناء مجددا ومخربا دون مبدأ ابداعي واضح.