18 يناير 2016

فهرنهايت 451


تنطق المعرفة في صدور الكتب بعد صوم دهري عن الكلام. فهي مخزونة هناك في صمت و ترقب لنابش متعطش، و لعاشق كتب ، ولضال موشك على الهداية. نجدها تعاهد الساعي لها، وتطرق باب الغافل عنها، وتتركه إحتراما لرغبته، ولها قوة يقين بقدرتها على إستعادته يومًا ما، تلك هي المعرفة المخزونة في كتب برادبري الذي يتبصّر بإن تكون الكتب يوما ستكون حبيسة في عقول البشر بعد عجزها عن الإرتصاص في رفوف المكتبات.

تدور أحداث الرواية حول أنه سيأتي على هذا العالم فترة يحرّم فيها تداول أو قراءة الكتب،  لما فيها من أفكار تدعو البشر لأن يفكرون ويثورون ويختلفون.  ويكون العمل الرئيسي هو إحراق الكتب، وإحراق أى منزل به كتاب.

المشهد الذي يرسمه برادبوري والذي يتكرر في كثير من أحياء مدينته المفترضة بطريقة ممسرحة تهدف إلى إرهاب الناس. الكتب مكدسة كأكوام كبيرة من الأسماك المتروكة لتجف، الرجال يرقصون ويتعثرون ويسقطون فوقها. أبخرة الكيروسين تغرق الكتب وتهيئها للمحرقة، يضخّون السائل البارد من الأوعية المربوطة على ظهورهم والمرقّمة 451. حيث يتهم من بحوزته كتاب بالهرطقة ويجرم ويعاقَب.

بطل الرواية يعمل كرجل حريق يحرق أى منزل به كتب. ثم يبدأ في احد الايام التفكير في الأمر، يحدث نفسه أنه لا بد من وجود أشياء في الكتب تجعلهم يحرقونها، لكن ما هذه الأشياء التي تجعل امرأة تفضل ان تبقى في منزل يحترق لتحترق مع كتبها على ان تحيا بدونها. وأن هناك من يمضي عمره ليدون بعضا من أفكاره وتأملاته في العالم والحياة من حوله في كتاب، ثم يأتي هو ويدمر كل شيء بسرعة ويحوله إلى رماد. يشعر باشتعال الحريق في ذهنه ويبقى متقدا مستعرا، يحاول إطفاءه دون جدوى، الى ان يقرأ ذات مرة كتابا، ومن ثم يقع تحت تأثير حب الكتب، ويبدأ بعدها في رحلة مناهضة لعملية حرق الكتب.

يختم الكاتب روايته بإطلاق صفّارة إنذار، حيث تنشب حرب شاملة تودي بالمدينة وتحرقها وتدمرها، ليكون الأمل في إعادة البناء والتأسيس بناء على ما يختزنه الهاربون من بطش النظام في صدورهم، وعقولهم ليكونوا هم التراث والمستقبل معا.

لتحميل الرواية انقر
هنــــــــــــا

16 يناير 2016

قصاصات من رواية الحرف القرمزي


باثناء محاكمة هستر بتهمة الزنا تحدث بعض عامة الناس عن هيستر. قال احدهم:
-  بإمكانها أن تغطي الوسم بمشبك أو شيء من هذا القبيل و أن تمشي بوقاحة في الطرقات كما في السابق.
– دعيها تغطي شارة العار بالطريقة التي ترغب فيها فوصمة العار ستبقى دائماً في قلبها.
– عم نتحدث نحن … عن شارات و علامات على ثيابها أو على جسدها ؟
هل يمكن أن يكون ذلك صحيحاً ؟ لقد جذبت الطفل بشدة إلى صدرها حتى أنه صرخ ثم أطرقت ببصرها إلى الحرف القرمزي و كذلك فقد لمسته بإصبعها لكي تؤكد لنفسها بأن الطفل و العار كانا حقيقيين. نعم , فقد كان ذلك واقعها و كل ما عداه كان مجرد أوهام.

القاضي - وشريكها في الزنا - يتحدث مع بطلة الرواية "هيستر" من على منصة القضاء:
إذا كان صمتك ينطلق من العطف و الشفقة عليه فاعلمي أنك مخطئة , صدقيني يا هستر , حتى لو كان سينحدر من مقام عالي ليقف بجانبك على منصة العار فإن ذلك سيكون خيراً له من أن يخفي قلباً آثماً طيلة حياته .
ماذا سيجني من صمتك سوى أن هذا الصمت سيغريه بل سيرغمه على أن يضيف النفاق إلى الإثم .
لقد منحتك السماء عقوبة علنية و بذلك تتمكنين من تحقيق انتصار علني على الشر الموجود في ذاتك و البؤس الموجود من حولك , و انتبهي إلى أنك تحرضين ذلك الشخص الذي يفتقد الشجاعة الكافية حتى يشرب من الكأس المر و لكن المفيد كذلك و هو الكأس الذي يقدم إليك الآن.

عن رواية : الحرف القرمزي - ناثان هوثورن

14 يناير 2016

الحرف القرمزي


هوثورن هو أفضل من يكتب عن الشر، عن النواحي المظلمة في النفس البشرية، و رغم أن شهرته تعتمد على روايته الحرف القرمزي، إلا أن عبقريته تتبدى واضحة في مجموعتيه القصصيتين: قصص من نزل قديم و حكايات حُكيت مرتين. هوثورن هو أيضا أبو الأدب الرمزي، لا أحد يستخدم الرموز ببراعة مثل هوثورن.

تدور أحداث الرواية في القرن السابع عشر في مدينة بوسطن المتزمتة. وتحكي قصة هستر براين التي أنجبت بعدما ارتكبت خطيئة الزنا، ثم تتوب وتحاول أن تعيش حياة كريمة. ويُحاول هوثورن استكشاف مواضيع جديدة حول القانون، والخطيئة، والإثم. 

يُستخدم مصطلح "الحرف القرمزي" للإشارة إلى أي شيء يُمكن أن يُوصف به الإنسان بأي شكل، وذلك لسنوات عديدة بعد اِصدار الرواية. كان استخدام النازيين للنجمة الصفراء للإشارة إلى اليهود نوع من أنواع استخدام "الحرف القرمزي"، وذلك في فترة الثلاثينيات والأربعينيات. كما كانت محاولات الحكومة لمنح رخصة معينة لصنع علامات للمجرمين تعتبر استخداماً لمصطلح "الحرف القرمزي". 

يشير هذا الاستخدام بشكل مباشر إلى حرفA القرمزي الذي كانت ترتديه بطلة الرواية. يُعتبر ذلك نوعاً مميزاً من العقاب. يكمن عقاب الحرف القرمزي في أنه علامة تبقي للأبد، ووسيلة لتعريف كل الناس بخطيئة الفرد، تزيد من عذاب الشخص من خلال عدم القدرة على الهرب من جرائمه الماضية. وبالتالي يمنع "الحرف القرمزي" الشخص من الشفاء مما إقترفه من أخطاء في الماضي. يُقَال بأن الهدف من الحرف القرمزي هو حماية العامَّة، ولكنه في الحقيقة يهدف إلى زيادة عذاب المخطيء. 

رفضت الشابة هيستر الأقرار بهوية الأب فقرر القاضي ان تقف هيسترعلي مرأي ومسمع وهي ترتدي الحرف القرمزي وان تعترف بهوية الأب امام مجتمع بوسطن. يصف الكاتب انفعالات هيستر في اصعب لحظة وهي مواجهة المجتمع وهي ترتدي الحرف القرمزي.... فيقول انها قامت بخياطة الحرف القرمزي علي ثيابها في منطقة الصدر بطريقة جميلة للغاية وكان واضحا للملأ انها بارعة في الخياطة... كانت تبادل نظرات الناس لها بأنها مصدر خزي وعار بالأبتسامة المستعلية والثبات ويمعن الكاتب في شرح الأمر فيقول بأن دافع تلك الأبتسامة المستعلية والثبات هو غريزة الأم التي تعلو علي كل شيء..... فقد ادركت هيستر انها اذا تهاوت تحت وطأة الشعور بالذنب فسوف تفقد الطفلة.... ولن يكون هنالك من يرعاها....... يستمر الموقف صعوبة حينما يقع اختيار هيئة القضاء على اعظم قساوستها لأستنطاق هيستر حتي تفصح عن هوية الأب... فيقع اختيارها علي ديميسديل ... الأب
ترفض هيستر الأفصاح عن هوية الأب..... وذلك بعد ان ترجاها ديميسديل..... وكان يحمد لها عدم الأفصاح بهويته في قرارة نفسه.

لتحميل الرواية انقر
 هنـــــــــــــــــا

12 يناير 2016

موت ايفان ايليتش


تولستوي من اروع الادباء الذين يمكن ان تقرأ لهم بدءا من رواية "الحرب والسلام" انتهاءا بهذه الرواية التي تسرد قصة وفاة احد الاشخاص المرموقين، من خلال هذه الرواية يعكس تولستوي معنى الحياة. انه يريد ان يطرح هذا السؤال، هل هناك فعلا معنى للحياة؟ هل هناك ما يجعل الحياة تستحق ان تعاش؟ انها قصة حزينة ولكنها مليئة بالمعاني والدروس العظيمة.

عندما بدأت قراءة هذه الرواية لم اكن اتوقع ان استمتع فعلا بقراءتها. لكن ما ان وصلت حتى الفصل الرابع لم استطع ان اترك الرواية. هذه الرواية سهلة جدا في قراءتها لأنها ليست طويلة اذ يقع حجمها بين القصة والرواية. كان تولستوي بارعا في سرده، موجزا جدا في عباراته، وكل المواقف الثانوية الواردة ذات صلة مباشرة بالموضوع الاساسي ومكتوبة بشكل جميل. اعتقد ان تولستوي يضع خبراته في الحياة في هذه القصة. 

يصف تولستوي مرض إيفان إيليتش بطريقة تجعل القارئ يشعر تقريبا بما كان عليه حال ايفان. كان إيفان إيليتش موظفا حكوميا في مرتبة عالية في الحكومة ابان حكم القياصرة في القرن التاسع عشر في روسيا. كان لديه كل مظاهر "الحياة الناجحة": عائلة محترمة، وظيفة مرموقة، منزل جميل. وهو قبل كل شئ طيب النوايا والمقاصد في الحياة. ولكنه هل كان يعيش حقا؟

عندما يشعر باقتراب الموت منه يبدأ في التفكير جديا كيف كان يجب أن يعيش. انه كان يحيا منجرفا مع تيار الحياة بنمط معيشة معين. قبل هذا النمط من الحياة دون تفكير مدفوعا بلهفة شديدة لتسلق السلم الاجتماعي. انه يسلك الطريق البيروقراطي في حياته المهنية. مواطن بارز، متزوج ، على صلة بصفوة المجتمع. حقق قائمة واسعة من الإنجازات، ولكنه يجد الموت يقرع على بابه في احد الايام. فكيف يقابله؟

الشئ نفسه دائما: فتارة بريق امل وتارة اخرى عاصفة يأس، ودائما هذا الالم وهذا القلق. الشئ نفسه دائما.
الوحدة تعذبه، ولكنه يعلم مسبقا انه ان جاء احد الاشخاص (ليسليه) ساءت الحال ايضا.
فما ان بدأت سلسلة الاحداث التي آلت في النهاية الى ايفان حتى تبددت الان امام عينيه جميع الافراح التي عاشها والتي بدت انذاك افراحا ولكنها تحولت الآن الى شئ تافه وحقير. 

تولستوي يصف ببراعة مشاعر ايفان:
  1. يصف معنوياته التي تضعف بالتدريج امام المرض غير القابل للشفاء. الوضع النفسي السئ الذي يعجز عن الهروب منه.
  2. ويصف ايضا شعوره تجاه زوجته التي اصبحت كيانا متجسدا لالامه – كيانا يمشي ويتنفس مجسدا لهذا الألم. لم يعد يطيق رؤيتها، وصوتها، ورائحتها. انها كابوس بالنسبة لرجل على حافة الموت.
  3. ثم يصف مشاعر ايفان تجاه الذين حوله - انه يشعر انه اصبح عبئا على من حوله؛ شاعرا ان الجميع ينتظرون فقط أن يموت.
  4. يصف مشاعره وهو مضطر للاعتماد على اخرين للمساعدة في تخفيف معاناته. يصف مشاعره تجاه الاطباء الذين لجأ اليهم ليداووه او ليخففوا من الامه. ثم مع تقدم مرض ايفان الغامض يبدأ في تقبل المساعدة من عبده الذي اظهر له الرعاية الكاملة بانكار حقيقي للذات. 
  5. يصف مشاعره وهو يصارع مع الوجود، ومع الله ... "لماذا انا؟ لماذا يحدث هذا لي!"
  6. واخيرا يصف مشاعره تجاه الالم والموت ذاته، حين يقول: "تعال ايها الالم. تعال ايها الموت!"

في البداية، يقابل الموت بعدائية ثم بتسليم للقدر - يواجه إيفان موته الوشيك، بالانكار اولا، ثم يتحول الإنكار إلى غمرة اليأس وهو يتصور العالم يسير بدون ان يكون جزءا منه. انه يجد ان عائلته والمقربين ينظرون إليه بعين الشفقة الى درجة ما، ولكنهم يبقون غير مبالين وبعيدين عن الاحساس بمعاناته.

ولكن بعد ذلك في نهاية صراع طويل مع المرض والتعب النفسي، يجد ما نحن جميعا نأمل في العثور عليه، يجد السلام. انه يرى أن الموت ليس هو نهاية الحياة، ولكنه بدايتها. حينما كنت صغيرا كنت أعرف النجوم، كنت أحبها واحفظ أسماءها: الزهرة، الجوزاء، الدبان - الدب الاكبر والاصغر.. الخ. كيف امكنني أن أحب تلك الأضواء رغم ما تبدو عليه من ضعف وخفوت ورغم بعدها الشاسع عني؟ كيف استطاع ايفان ان يحب الموت- هذا الشئ البارد القاسي والضيف الثقيل. حتى انه يخاطبه في النهاية : 

"تعال ايها الالم. تعال ايها الموت!"

إيفان ينظر للموت بعين الإحباط وليس الخوف. لقد صعقه أن يرى حياته تختزل إلى قائمة تافهة من الاعمال التي يقوم بها بشعور سخيف من صنع الواجب جاعلا وقته في هذا العالم حتى أقل من قصة تحكى للاطفال قبل النوم. "موت إيفان" اذا يضع القارئ في مواجهة مع موته هو. يكشف ايفان النقاب عن الطبيعة المتقلبة، الجامحة والغامضة، ويكتشف ما يفوق محدودية وجوده.

تولستوي يقدم انعكاسا رزينا لعجز البشرية في سبر غور المرض والالم والموت. انه يلقي فلاش باك في شكل الراوي الملم بكل التفاصيل الظاهرية والباطنية لايفان، ويروي قصة وفاة هذا الرجل بطريقة مفصلة، ويحاول ان يصف الالام الجسدية والروحية والنفسية بتفصيل مؤلم في قصة واقعية مؤثرة.

قال احدهم:

في كل مرة اعيد قراءة رواية تولستوي "موت إيفان" أقرأها بشكل مختلف. حين كنت طالبا جامعيا قرأتها كأنها وصف لتجربة شخص مسن، واتصورها تجربة بعيدة، غير واقعية تقريبا، غريبة، سريالية. قرأتها مرة أخرى خلال سنوات عملي كطبيب، أعجبت بعبقرية تولستوي لوصف مراحل الحزن، وبعد ذلك مشاعر الغضب، وكيف كان مرضاي لهم تجارب مماثلة، كما أعتقد، محاولا أن اكون أكثر صدقا وحساسية من الأطباء الوارد ذكرهم في القصة.
الآن، وانا طبيب متقاعد في العقد السابع من عمري، أجد أنني اراها بشكل مختلف، أن إيفان وهو رجل في الأربعينات من عمره عند وفاته، تسامح مع مواقف أصدقائه وأفراد أسرته، وبدأ مراجعة جادة لحياته وتقييمها، والاستجابة لالحاح السؤال عن معنى الحياة وعن ماهية الموت. 

تولستوي يضعنا وجها لوجه، مع الموت، مع الحياة؛ الحياة الحقيقية مقابل الحياة الزائفة. انه يفعل لك كما لم يفعله أي كاتب آخر من قبل. انه يسمح للقصة لتلقي كامل ثقلها على القارئ وتسرد بنفسها. تولستوي لا يضيع الوقت في الولوج سريعا في رحلة حياة إيفان وتحولها من الحياة التقليدية لمواجهة ما يختبئ وراء الحياة، اعني الموت. عن طريق الاختباء من الموت وجد ايفان نفسه أيضا يختبئ من الحياة. لقد وجد انه بمسح الزجاج او المرآة وتلميعه ليظهر بوضوح بريقه. وجد انه يعكس ما هو الموت وما هي الحياة الزائفة، ليترك الباب مفتوحا أمام فرصة رؤية الحياة الحقيقية وعيش ما هو حق. أنه يفتح إمكانية رؤية الموت ككيان مستقل في حد ذاته.

ايفان الذي يدرك قبل موته بساعات فقط أنّه بسبب خضوعه لدوره الرتيب في مسرحية المجتمع و توزيعه الطبقي و الوظيفي كان قد أمضى حياته كما لا يجب أن تكون- حياة خاليةً من العواطف و الحميمية و مليئة بالأخطاء حتى، سلّم نفسه للموت مرتاحاً حين أدرك أنّ حياته لم تكن غير موت طويل و أنيق 

6 يناير 2016

انّا كارنين


قال الكثير من النقاد ومن بينهم فيليب يانسي في كتابه "اكثر 13 شخصية اثرت فيّ"، ان روايتي "الحرب والسلم" و"انّا كارنين" من اعظم ما كتب تولستوي. لم ادرك السبب الا بعدما قرأت رواية انّا كارنين.

هذه الرواية تجعلك تدخل الى عمق المشاعر الانسانية، في اعمق العلاقات، اقصد علاقتي الزواج والامومة. علاقة الزواج متمثلة في علاقة انّا بزوجها كارنين، وعلاقة الامومة متمثلة في علاقتها بابنها سيرجي. 

هناك مقولة تقول "ينبغي ان نعلم ان قرار الزواج على مستوى الافراد هو في نفس خطورة قرار شن الحروب على مستوى الدول". كنت اعتبر هذه المقولة فيها مبالغة. ولم ادرك حقيقتها الا بعد قراءة الرواية. في سني الطفولة والشباب لا ندرك الحياة بكل تعقيداتها وفي العموم نرسم صورة حالمة عن الزواج، حتى اننا ننظر بسذاجة و سطحية الى الخلافات الزوجية.. ونسأل في دهشة عن الاسباب، وحين نعرف الاسباب في بعض الحالات تزداد دهشتنا..

لست اقصد من كلامي التعقيد او التهويل من الامر، ولكن ينبغي ايضا الا نهوّن من شأن هذا القرار المصيري اي قرار اختيار شريك الحياة. قال البابا شنودة الثالث مازحا حين كان يسأل عن قانون الاحوال الشخصية "انها الاهوال الشخصية" باستبدال حرف الحاء بالهاء. وقال ايضا البابا تواضروس الثاني حينما سئل عن نفس القانون ان كل مشكلة من مشاكل الاحوال الشخصية، في حد ذاتها، تحتاج الى قانون خاص بها. ولا غرو لأن العلاقات الزوجية تتنوع تنوع البشر انفسهم. فلا يوجد علاقة بين زوجين تشابه علاقة زوجية اخرى. 

حاول تولستوي في رواية انا كارنين ان يلج عميقا اغوار النفس التي لا يسبر اغوارها فاظهر ملمحا من ملامح شخوص الرواية الشديدة التعقيد ويكتنفها الغموض. انك كقارئ تجد نفسك مدفوعا للتفاعل مع الشخصيات في محاولة ومساعدتها لتتخذ قرارا صائبا بازاء امر ما، ولكنك تجد نفسك حائرا مثلها. تقف امام كارنين فلا تعرف ان تسعفه برأي في اتخاذ قراره بشأن علاقته بأنّا، كما لا تعرف ان تصفه بناءا على قرارته التي اتخذها، ومن ثمّ لا تعرف ان تصف نفسك لانك تقف حائرا مثله.. او كما جاء على لسان فرونسكي "ما اعسر زوجك على الفهم! اهو جبان ام شجاع؟ اهو شريف ام خائن؟ اهو قوي ام خائر؟ اهو عاقل ام ابله؟ لابد انه واحد من اثنين، لكن ايهما يا ترى؟ ..

تجد نفسك تتوقف امام شخصية آنا طويلا وتسأل اسئلة كثيرة عن معانى مثل الحب والامومة وعن الالتزام وعن الشجاعة والحكمة في التصرف، وعن التروي في اتخاذ القرارات، عن الصراحة وعن اللياقة، عن مجابهة الواقع وعن الهروب منه ايضا.. الزواج قرار جرئ - ان تتعهد بالالتزام بمحبة شخص مدى الحياة وملازمته في السراء والضراء امر يحتاج الى الكثير من التروي. بلا شك كان قرارا متهورا من انّا ان تترك زوجها. ان تصارحه بأنها لا تحبه وانها تحب شخصا اخر كان امرا مشينا، وكان قرارا ينم عن انانية بغيضة ايضا. لا يوجد ما يسمى بالحب من النظرة الأولى ولذلك فان علاقتها الناشئة مع فرونسكي كان خيارا واعيا، وكامرأة متزوجة ما كان لها ان تخطو تلك الخطوات الكارثية. 

الرواية تجعلك تتأرجح بين التعاطف مع انّا والشفقة عليها كزوجة مهيضة الجناح، وبين احتقارها لتهتكها. موقفها من ابنها يجعلك ترق لها اذ تشعر انك امام ام حقيقية، ثم يأتي موقفها من زوجها كارنين ليجعلك تقف متحيرا اذ تواجه الانسان في ضعفه وتبدل مشاعره. قصتها تجعلك تفكر ألف مرة في مسائل الحب والزواج. والصورة التي صوّرها تولستوي لها تجعلك – ويا للماساة – تتيقن انها ستحيا غير سعيدة على الدوام. انها شخصية حزينة ومأساوية، ولكن ليس بسبب قصة حبها، ولكن بسبب ان كيانها كله اكتنفه الظلام. قصتها تتكرر في كل عصر وكتب التاريخ تحوي في بطونها صور متكررة من مأساتها وان اختلفت في تفاصيلها.

كان تولستوي بارعا في ان يجعلك تكتشف هذه التناقضات في الحياة وفي الشخصيات. تقف امام ام يفيض قلبها رقة وحنانا ازاء ابنها وفي نفس الوقت تهجر زوجها لترتبط بآخر. يصوّر تولستوي ذلك ببراعة في وقفات انسانية مؤثرة. حينما سألها ابنها :
- "اتحبيني يا اماه؟"
ناجت نفسها : "يا الهي كم احبه؟ الا افتديه؟ الا اقدم له حياتي؟"
واغرورقت عيناها بالدموع .. كان ظهور ابنها بمثابة النسمة المنعشة تهب على القلب المهيض فتنفخ الحياة في مواته، وتبدل المه بالامل، وتعطيه القوة والجلد.

كان موقف كارنين ازاء تصريح زوجته بانها تخونه عجيبا. يتخذ تولستوي موقف الراوي للتعليق على رد فعله فيقول:
"ما كان للانسان في اي جيل ان يكنه حقيقة ما جبل عليه الرجل.. كان ملما بالحقيقة ولكنه كان يتجاهلها حتى لا ينهار ويسقط، وهل في طاقته الان ان يتجاهلها؟ هل يستطيع ان يواصل هذا الدور الذي اداه بصبر حتى الان؟
فهل يتكلم؟ وما جدوى الكلام؟ لقد انتهى كل شئ وغدر به الدهر في موطن حساس، فهل يستسلم؟ هل يلقي السلاح؟ ايقضي على مستقبله دون كفاح؟
انه شجاع، وعاطفته ليست كل شئ.. انه يعيش لهدف، وهدفه ان يتقدم ويتقدم باستمرار دون انقطاع.

يجعلك تولستوي متحيرا ازاء تصرف كل شخصية. كما يجعلك متأرجحا في مشاعرك تجاهها: هل تلتمس لها الاعذار ام تدينها باصرار؟ يجعلك ازاء كل تصرف تقلبه على كل وجه لتدرك ابعاده - اسبابه وعواقبه. تدرك الانانية في تصرف كارنين فتمجه ، مثال ذلك حين يعلّق على رد فعل كارنين بعدما عرف بخيانة زوجته:
"وخيل اليه .. انه يحتم عليه الان ان يلاشي قلق نفسه حتى تعود اليه نفسه.. وان ينقي روحه مما علق بها حتى يرجع اليه هدوءه، ويعود اليه اتزان، فيزاول اعماله بما عرف عنه من الهمة والكفاءة.. وسوّلت اليه نفسه ان يتخذ الاجراءات القانونية لتطليق امرأته، ولكن كيف يطيق بعد ذلك رؤيتها تتنقل بين احضان الرجال، انها لن تستطع ان تتزوج بعد طلاقه منها، لأن الكنيسة تحرّم زواج المطلقة.. انه لم يشعر نحوها بالمحبة، ولكنه ايضا لا يرغب في رؤيتها تنحدر الى الدرك الاسفل. اهو الاشفاق ام الانانية؟
انه يحب الانتقام، لقد اكتشف هذا الان..

4 يناير 2016

جولة في روايات دوستويفسكي


ان ايمان دستويفسكي قد تم طرقه على سندان الشك ولا يعني الشك الجهل او انكار الايمان وانما يعني اختبار صدق الايمان.

لقد تركت قصة ايوب انطباعا كبيرا عليه منذ حداثته. انها قصة البار الذي تألم ومن ثم دخل في حوار شخصي مع الله، اعتبره البعض "عدم لياقة" لكنه تحول الى لقاء الله وجها لوجه.وعندما رأى ايوب الله تاب وتخلى عن صلاحه السابق الظاهري الى صلاح حقيقي قبله من الله. وهي القصة التي اشار اليها على لسان ايفان الاخ العقلاني في روايته "الاخوة كرومازوف"
ولا نفوت قصيدة الحب للاب زوسيما في نفس الرواية:
"احبب الله. احبب النباتات .. احبب الحيوانات.. احبب كل المخلوقات"

وقد اختار دوسويفسكي اتباع بيلينسكي سياسيا من اجل هذا حكم عليه بالاعدام ولكن ارجئ تنفيذ الحكم. ويمكننا ان نتخيل كم كانت تلك التجربة مخيفة. وقد صور تجربته هذه في رواية "الابله" عندما صور مشهد جماهير الناس التي اتت لتشاهد الاعدام. وشعور الضحية بالوحدة. 

وبعد هذا الاجاء لحكم الاعدام يقضي اربعة سنوات في الاشغال الشاقة ثم 5 سنوات في النفي في سيبيريا وقد تعرض خلاله للشعور الرهيب بالمذلة. وقد روى معاناته في رواية "بيت الاموات". كانت تجربته مثل "الدفن الحي" وفي خلال ذهابه الى المنفى زودته احدى السيدات بانجيل، وزوده هذا بالوسيلة المناسبة للدخول والاشتراك في الام المسيح. وحتى بعد عودته من المنفى كان نصيبه المرض والفقر و الديون والارهاق في العمل ولكن كانت نتيجتها انجازاته الادبية الكبيرة. وارغم بسبب ديونه الى الذهاب الى المنفى ثانية. واثناء هذا النفي كتب روايته "الابله" و"المسكون"(او الشياطين).

كانت روايته "بيت الاموات" وصفا مجازيا للوجود الانساني وتشبه تعبير باسكال "اننا مطروحون في زنزانة الموت. ونختبر يوميا موتنا في موت الاخر". 

ان الطبيعة المخيفة للشر او تمردنا على الله الذي صوّره دستويفسكي بشكل ينبض بالحياة قد سبب الازعاج الكثير لنقاده الذين كانت تحكمهم النظرية "الاقليدية" اي الحلم بالعيش في عالم طوباوي سعيد. 

ان الخلاص هو حدث فوق كل العقبات. انه نشوة استجابة الانسان لرياح الله التي تهب حيث تشاء.

ألقي بنفسه على الارض يبللها بدموعه. انه سقط ولدا ضعيفا ونهض بطلا عظيما ذا تصميم.
===
لتحميل رواية الاخوة كارامازوف انتقل للرابط التالي:
http://www.4shared.com/get/QWzx9LGD/__online.html