2 فبراير 2016

مقتطفات من رواية "فهرنهايت 451"


بمناسبة معرض الكتاب هذه الايام ادوّن هذه القصاصات من اسطورة برادبوري "فهرنهايت 451".. صغتها في شكل قصصي، كملخص للرواية.. ليكون هذا حافزا على قراءتك للرواية، التي تعد من اكثر روايات الخيال تشويقا واثارة.

فكرة عن الرواية:
لماذا سميت بهذاالاسم؟ 451 فهرنهايت هي درجة الحررة المثلى لحرق الكتب. فالنار هي الوسيلة المثلى للتخلص من المعرفة والقضاء عليها. اسلوب الرواية ساخر. لاحظ ماذا يقول بيتي في الجزء التالي: "ترى ما الجميل الى هذا الحد في النار؟ العلماء يقولون انها احتكاك الجزيئات، و لا يعلمون ما هي حقا. انها جميلة، وجمالها في انها تدمر التبعات والمسئوليات. كلما تعقدت مشكلة ما فعليك بالمحرقة. والان يا مونتاج انت عبء وسترفع النار عن كاهلي هذا العبء. والان يا مونتاج اريدك انت ان تحرق بيتك بقاذف النار.. اريدك ان تطهر نفسك بنفسك". الهدف من الرواية السخرية اللاذعة من محاولة الرقابة على الفكر - التعريف بالصداقة بين الانسان والكتاب - تصوير رغبة الانسان المستعرة للمعرفة - ابراز موضوع الفضول، وموضوعات اخرى كثيرة صاغها الاديب الانجليزي برادبوري بعبقرية.
يمكنك ان تقرأ اكثر عن الرواية هنـــــــــــــــا
***

فتح مونتاج الباب الموصد، واذ بشلال من الكتب يهوى فوق كتفيه. طارت الكتب فوق كتفيه وكأنها حمامات ترفرف بجناحيها. هوى كتاب على يده وانفتحت صفحة منه. ووسط العجلة وجد وقتا ليقرأ سطرا واحدا، ظل يتوهج في ذهنه وكأنه حفر فيه:

"اخلد الزمن للنوم في شمس الاصيل..".. وسرعان ما هوى كتاب اخر بين يديه. كان الرجال يرمون اليه بالكتب والمجلات والتي بدت كطيور ذبيحة. وما هي الا دقائق معدودة الا وكانوا قد اغرقوا الكتاب بالسائل الحارق من الحاويات التي تحمل رقم 451 على ظهورهم..

صرخ مونتاج في المرأة صاحبة المنزل:
- لسوف يحترق البيت كله. لكن المرأة بقت مرتمية فوق الكتب.
هتف برفاقه:
- ما هذا ! هل تتركونها؟
- ان هؤلاء المجانين يفضلون الموت مع الكتب.. هذا سلوك معتاد..
همّ بالصياح بالمرأة مجددا ولكنها وجدها وقد اخرجت عود ثقاب وعلى وشك اشعاله. فتذكر ان المرأة قالت حين دخل:
- هذا اليوم سنشعل شمعة في انجلترا لن يخمد نورها ابدا.. 

***
اصابه الارق طوال الليل.. عليه ان يتلفظ كلماته بعد الان بطريقة عرائس البانتومايم.. في الصباح شعر بالام شديدة في رأسه وفي عينيه.. ضغط على عينه مكان الالم وهو ينادي زوجته:
- ملدريد، ناوليني من فضلك قرص اسبرين، وكوب ماء.
- ما الذي حدث. انك لم تتناول من قبل قرص اسبرين واحد..
- اشعر بصداع.
صمتت.
- ألن تسأليني ما السبب؟
- لقد كان الامس يوما مرهقا.. تصوري اننا احرقنا بالامس الف كتاب مع امرأة. احرقنا كتبا لدانتي ومرقس اوريليوس.. 
قاطعته:
- وماذا يهم في ذلك. ان الكتب هراء. ان الماجنا كارتا (وثيقة الدستور) يقول ان الناس ولدوا متساوين. والحقيقة انهم لم يولدوا متساوين ، وعلينا نحن ان نجعلهم كذلك.. 
- يبدو ان الحكومة نجحت في تغييب عقولنا. وكأنها تعمل بالقاعدة: ادر عقل الانسان بسرعة في جهاز الطرد المركزي فتتطاير كل الافكار المضيّعة للوقت. اشغل الناس دائما. اعطهم مسابقات يربحون فيها بسهولة. اذا تذكروا اسماء عواصم البلاد او اسماء الاغاني المشهورة. حاول ان تحشو عقولهم بالمعلومات سريعة الاحتراق حتى يشعروا انهم اذكياء. حتى يشعروا انهم يفكرون. هكذا يشعرون بالحركة دون ان يتحركوا. ولسوف يشعرون جميعا انهم سعداء. ان الشخص الذي يفك جهاز تلفاز ويصلحه – وكل الناس بوسعها هذا اليوم – اسعد من الشخص الذي يحاول ان يحل معضلة الحياة وهو امر لن يدركه الا فيلسوف او شاعر - ولن يدركه الا - بالسكون والتأمل.
- سأخذ اجازة فانا مريض اليوم. ربما اسبوع. ربما اكثر. وربما لن اعود الى العمل.

***
جاءه رئيسه في العمل ويدعى "بيتي" لزيارته. صافحه بيتي وهو يقول:
- كل رجل اطفائي يعاني من حكة ولو مرة واحدة اثناء عمله.. يحاول ان يعرف ماذا تقول الكتب.. ويحاول ان يهرش موضع الحكة هذا .. دعني اؤكد لك ان الكتب لا تقول شيئا. ان كانت قصصا فهي تتحدث عن اناس لا وجود لهم. وان كانت غير ذلك فالامر اسوأ. استاذ يعتبر الاخر ابله، وفيلسوف يريد ان يخنق الاخر من بلعومه.. والان ماذا لو حاول رجل اطفاء ان يأخذ كتابا – عن غير قصد – الى منزله؟
وارتجف مونتاج. واستطرد بيتي يقول:
- انه امر طبيعي.. انه الفضول لا اكثر.. نحن ادارة الاطفاء نتعامل مع بحكمة. نتركه 24 ساعة ثم اذا لم يحرقه نأتي ونتناول الامر. هل سننتظرك في وردية الليلة
- اعتقد انني لن اعود الى العمل ابدا..
قال بيتي وكأن ما قاله مونتاج على سبيل المزاح:
- اشف سريعا وعد الى العمل.
***
حين غادر بيتي قال مونتاج لزوجته:
- انا اليوم في اسوأ حال.. اريد تحطيم الاشياء وقتل الناس..
- اذا خذ السيارة الخنفساء و قدها باسرع ما يمكنك..
- لا.. 
صعد الى فتحة التهوية واخذ كتابا والقاه الى الارض وتناول اخر .. كتبا كبيرة وصغيرة بلغت 20 كتابا.
تراجعت ملدريد وكأنها ترى فئران عند قدميها.. تناولت الكتب واسرعت الى الموقد.. امسك بها فصارت تتملص وتخمش ..
- لا يا ميلي. انت لا تعرفين. واعتصر كتفيها و هزها. وهو يقول:
- اصبري قليلا. لابد ان ارى ما فيها اولا. لو كان كلام الرئيس صحيحا لسوف نحرقها معا. هل تسمعين؟
وبدأ مونتاج يقرأ. لا نعرف اللحظة الدقيقة التي تنشأ فيها الصداقة، انها تماما كما تملأ الوعاء قطرة قطرة ثم تأتي تلك القطرة الاخيرة التي تجعله يفيض، وهكذا في سلسلة العواطف هناك عاطفة اخيرة تجعل القلب يفيض بما فيه. وتذكر انه ذات يوم رأى صبيا وقد جلس على شاطئ البحر ومعه غربال يحاول ان يملأه بالرمل، لان ابن عم قاس قال له "لو ملأت هذا الغربال بالرمال فسوف اعطيك قرشا" وهكذا قضى الوقت يحاول ان يملأ الغربال.. لكن الرمال كانت تتسرب من اسفل بلا توقف.. لقد خطر لمونتاج انه يحاول ان يفعل مثل هذا الصبي ، لقد خطر له انه لو قرأ الكتب بسرعة فلربما استطاع ان يملأ الغربال..كانت التوراة في يده وقد ادرك انه خلال ساعات يجب ان يسلمها الى بيتي، لهذا قرر ان يقرأ باسرع ما يمكن.

***

وفي الطريق الى فابر.. واخيرا وصل الى وجهته. وقرع الباب. فتح فابر.

- انت تنظر يا سيد مونتاج الى رجل جبان.. لقد رأيت كيف تسير الامور من سئ الى اسوأ، ولكني لم اقل شيئا.. صمت حتى كان ينبغي الكلام.. صمت حتى فات اوان الكلام. صمت ولم يعد من نفع للكلام الان.

ما عاد احد يصغي لي. سئمت الكلام مع الجدران. الكتب انها ليست الا وعاء لحفظ اشياء خفنا عليها من النسيان، الكتب ليس بها سحرا على الاطلاق، ولكنها تقول اشياء تجعلك تعرف كيف تخيط من الرقع ثوبا يحفظك من برد الشتاء. انها تظهر الثقوب في الحياة، وعوار سياسات لاناس ظنوا انهم فقاء، اذكياء، اكفاء لا يعتريهم نقصان، لهذا يخاف منها كل صاحب سلطان. بينما التليفزيون يغرقك في بحر من الاصوات والالوان، بحيث لا تجد الوقت للتفكير او للانتقاد.. لهذا كف يا بني عن سعيك وعد لقفصك وعش مثل السنجاب. هم لا يعرفون انك كنيزك هائل ملتهب بالنيران، يعبر الارض لكنه لابد ان يرتطم بشئ يوما ما. هم لا يرون الان الا الضوء والوهج واللمعان.
***

خرج من عند فابر وذهب الى بيتي وسلمه الكتاب الذي معه .. تسلمه بيتي والقاه في سلة المهملات حتى دون ان ينظر الى غلافه.. دقائق وتسلم انذارا (بلاغا) .. هرعوا جميعا.. توقفت سيارة الاطفاء امام منزل مونتاج.. لقد كان البلاغ من زوجته بأن لديهم كتبا.. 
قال بيتي مخاطبا مونتاج:
- ترى ما الجميل الى هذا الحد في النار؟ العلماء يقولون انها احتكاك الجزيئات، و لا يعلمون ما هي حقا. انها جميلة، وجمالها في انها تدمر التبعات والمسئوليات. كلما تعقدت مشكلة ما فعليك بالمحرقة. والان يا مونتاج انت عبء وسترفع النار عن كاهلي هذا العبء. والان يا مونتاج اريدك انت ان تحرق بيتك بقاذف النار.. اريدك ان تطهر نفسك بنفسك.
في اللحظة التالية لم يدر مونتاج بنفسه وهو يصوب قاذف اللهب نحو بيتي.. وفي ثوان تحول بيتي الى وهج صارخ.. وصدر صوت هسيس كأنها بصقة هائلة تغلي فوق موقد ساخن لدرجة الاحمرار.. وسد مونتاج اذنيه كي لا يسمع الصوت وصرخ ..
- بيتي .. انك لم تعد مشكلة بعد الان. كنت انت القائل دوما: لا توجد مشاكل .. بل احرقها.. وداعا.
وجد نفسه يكلمها قائلا:
- انت احمق يا مونتاج.. كل ها بسبب حدة الطبع.. لم تكد تبدأوها انت قد تقيأت كل شئ على الاخرين وعلى نفسك. من الغريب ان تقف وتبتسم في وجه من يهددونك بالموت حتى تجعلهم يجنّون.. لقد اراد بيتي الموت وقد اراده.. 
صوت عربات الاطفاء من بعيد..
فكر في الهرب. لكن الى اين يفر.. الى بيت فابر.. سيكون هذا محاولة للانتحار.. لكنه سيذهب على كل حال، ومن عقل فابر سيجد الوقود الذي يعيد له ايمانه بقدرته على الاستمرار حيا.
ونظر الى السماء ليرى طائرات الهليوكوبتر .. دستتان منها تحومان كالفراشات التي اربكها ريح الخريف.. تنقب عنه في كل صوب.. وها هي تهبط كانها رقائق الثلج تنحدر الى الارض. مشى في الشارع الخالي الذي بدا كحلبة المصارعة تنتظر ضحايا مجهولين، سوف يواجهون قتلة مجهولين. واقتربت منه سيارة بسرعة جنونية. خطر له انها سيارة شرطة، لكنها اجتازته.. وسمع ضحكات صبية..

***
لقد غادر الان المدينة. شعر كأنه ممثل يغادر مسرحا مليئا بالممثلين. انه يغادر عالما من الحقيقة المخيفة الى عالم من الحقيقة التي لا يمكن ان تكون حقيقة لانها جديدة تماما عليه..
رأى القمر في السماء.. لكن ما مصدر ضوء القمر؟ الشمس طبعا.. الشمس تدوم وتحرق.. الشمس والزمن والحريق.. الشمس تحرق كل يوم.. والزمن منهمك في حرق الاعوام..
كلما تنفس اكثر دخل المزيد من المعرفة الى عقله. انه ليس خاويا.. هناك دوما المزيد من المعرفة لكي تملأ عقله والمشاعر لكي يجيش بها صدره.
رأى في النهاية نارا.. كانت تمنح الدفء لا الاحتراق.. اثار دهشته ان النار تعطي كما تأخذ احيانا..
كان يتحلق حولها خمسة رجال ذوي لحى حليقة.
- تفضل . شاركنا في فنجان قهوة. نحن نحفظ الكتب هنا.. في عقولنا.
حاول مونتاج ان يرى في عيون هؤلاء الرجال بريق العلم الذي يحملونه، لكنه لم ير شيئا مميزا.. مجرد رجال لا يميزهم شيئا.. مجرد كتب تمشي على قدمين.
وضحك احدهم وهو يقول:
- لا تحكم على الكتاب من غلافه!
وضحك الرجال. 
قال جرانجر:
- اسمع يا مونتاج .. كان لي جد بارع يربي الحمام ويعزف الكمان. حين مات حزنت لانني لم ابك عليه، بل على كل الاشياء التي لن تكون فيما بعد. كم من حمائم لن تفرخ، وكم من الحان لن تعزف.. وانت يا مونتاج، ماذا قدمت للعال؟
- رماد..
- كان جدي يقول. ان كل انسان لابد ان يترك شيئا بعده والا لن يذهب للجنة.. يترك طفلا.. جدارا.. نبتة.. قصيدة.. كتابا.. وكلما نظر الناس للشئ الذي تركته وجدوك فيه.. لا يهم ان تكون بارعا.. المهم ان تترك شيئا او ان تغير شيئا عما كان عليه قبل ان تلمسه..

المصدر: اسطورة برادبوري التي لا تنسى "فهرنهايت 451"