25 أغسطس 2017

سقوط ابليس (2)



ايها الروح! يا من تنزل من طهر فؤاده – فلقد كنت قائما منذ بداية الوجود – باسطا جناحيك الجبارين فوق الهوة الشاسعة، ثم رقدت فوقها مثل الحمامة، حتى دبت الحياة في احشائها.بدد ظلمات نفسي!
شد ازري وثبت دعائم كياني! لعلي استطيع تبيان العناية الالهية ، شارحا حكمة ما يفعله الله بالانسان.
ايها الروح! حدثني عن جدينا العظيمين وهما هانئان في اعطاف النعيم وهانئان برضا الله.
واخبرني عما حدا بهما ان يغضبا الاله العظيم خالقهما.
من الذي اغواهما بهذا العقوق الذميم؟
انه الثعبان الدنئ! (الحية القديمة، ابليس)
لقد ثار مكره الدفين، نازع الحسد قلبه فخادع ام البشر، بعد ان لفظته الجنة لغروره وخيلائه ومعه اتباعه، حشد كبير من الملائكة العصاة.
طمع في ان يضارع منزلة الله، وهكذا حفزه هذا المرمى الى تحدي الله واثارة قتال في الجنة : معركة يشنها الخيلاء وحصادها هباء!
وهكذا انقلب ساقطا يتقد لهيبا، تغله الاصفاد ، ويصطلي بعذاب الحريق.
انبطح مع رفاقه في هوة الهزيمة يتقلبون في لجج اللهيب.
بدأ في التفكير في سعادته الغاربة وعذابه المتواصل، فاخذ يقلب عينيه الخاسئتين فيما حوله ،
عينيه اللتين شهدتا على الالم والخسران المبين، وما اختلط بهما من الغرور العنيد والحقد الشديد.
وسرعان ما ادرك ضنك حاله وضياع مآله.
(مثواه) نار بلا نور!
بل ظلمات لا تكشف الا عن مشهد كرب.
وظلال غم وهم، وساحات قد انتفى منها الامل. منابع كبريت لا تخبو جذوته ولا ينضب له معين.
وسرعان ما ابصر رفاقه يتقاذفهم بحر النيران المتلاطم ودومات السعير العاصفة!
وعرفته اسرائيل بعد ردح طويل واسمته بعلزبول.
بينما اصبح اسمه في السماء ابليس.
ما ابعدك عمن كنت اراه في اصقاع النعيم الوضاءة، يشع بهاءا علويا يطغى بريقه على الالاف!
ما احط وهدة المهوى وارفع جنة المأوى!
(وهوذا الله) دافعا الى المعمعة الضاربة بقوة لا يحصى عددها من الارواح المدججة ممن تجاسروا على مناوئة حكمه، وانحازوا الى صفوفي، فقارعوا قوته العارمة بقوة غاشمة، في معركة زلزلزت عرشه.
وماذا ان خسرنا الموقعة؟
اننا لم نخسر كل شئ . ما زالت لدينا عزيمة لا تفل.
اننا نستطيع اذا حزمنا امرنا – يحدونا امل اصدق- ان نشن – عنوة او بالمكر – حربا سرمدية.
هكذا تحدث الملاك العاصي – رغم عذابه – متباهيا، زاعق النبرة يعتصره يأس عميق.
ولم يلبث ان جاءه الجواب من رفيقه الجسور:
ايها الامير! يا زعيم العديد من الصناديد المتوجين!
يا من قدت المقاتلين الافذاذ من طغمة الكاروبيم في حومة الوغى، فقاموا تحت امرتك بافعال رهيبة!
ان الحادث الرهيب ليمثل امام ناظري فيثير الاسى.
يا للتهلكة المخزية ويا لدرك الحضيض الخفيض!
لكن ما زال الذهن منا والروح صامدين، وسرعان ما سيعود بأسنا شديدا رغم انطفاء جذوة المجد والبهاء، ورغم ان بهاؤنا قد ابتلعه الى الابد يمّ الشقاء!
ولكن لماذا (لم يفنينا) قاهرنا الجبار- اتراه قد ابقى على هذه النفس وقوانا كاملة حتى نقوى على مر المعاناة واليم العذاب، فنشبع غضبه؟ ام لننهض باعباء ما يأمرنا به وقد صرنا عبيد له؟
سواء كنا في قلب النار نكتوى، او نقضي له المارب في المحيط البهيم.
وما جدوى قوتنا التي لم تنتقص وكياننا السرمدي؟
وسرعان ما جاء رد الشيطان الاكبر:

ايها الملاك الذي هوى! ثق في قولي– انك لن نفعل خيرا بل سنرى الشر دوما متعة مثلي .. فنجعل من الخير سببا للشر.
جون ملتون - الفردوس المفقود

17 أغسطس 2017

رواية عزازيل


تأثر دكتور يوسف زيدان في روايته "عزازيل" برواية المؤرخ شارلز كنجزلي. وكان هدف رواية كنجزلي - كما قال في مقدمته - تصوير تلك الفترة المضطربة التي عاشتها المسيحية في القرنين الرابع والخامس. يقول كنجزلي: "في بلاد دنستها عادات الرومان وأباطيلهم، كان هذا أمرا عسيرا للغاية. لقد كان يلزم أن تهب عاصفة من السماء، تزلزل هذا الوجود، وتقلب الأوضاع الكائنة رأسا على عقب..". ويشرح كنجزلي الظروف التي حدثت إثناءها الأحداث التاريخية التي بنيت الرواية على أساسها، فقد كانت هذه الفترة تحمل صراعًا بين العقائد والفلسفات القديمة مع المسيحية الوليدة، برغم أنها صارت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية إلا أنه كما يقول كنجزلي: "ولكن أن كان الملوك قد انضموا تحت لواء المسيحية، فالممالك ما تزال كما هي – السواد الأعظم من شعوبها يرزح تحت عبء الوثنية، وقد نرى بصيصا من النور يظهر، ويظهر هناك من أثار المسيحية، ولكن هذا لن يغير شيئًا من حقيقة الظلام الكئيب الدامس. لقد كانت الإمبراطورية كما هي، والقوانين الرومانية هي هي، والبلاد كلها ترزح تحت حمل نظام من اللصوصية القانونية والاستعباد القاسي".
وهو هنا يبين لنا ان ما يتباكى عليه د. زيدان وملحدو الغرب ومن سار على دربهم من كتاب ونقاد، وما صوروه لنا على أنه النور الذي أطفأته المسيحية، ما هو إلا عادات دنسه وأباطيل كانت في حاجة لعاصفة سماوية تزلزلها وتقلبها رأسًا على عقب، بل وعبء وظلام كئيب دامس كان في حاجة إلى نور المسيحية!! 
ثم يصور الصراع الفكري الذي كان دائرا بين المسيحية، ممثلا في آباء كنيسة الإسكندرية، وفي رهبانها الذين اتخذوا من الأديرة مقرا هادئًا للبحث والتأمل والدراسة ، وذلك لمواجهة هذا الصراع الفلسفي، والذي انتهى بنصرة آباء الكنيسة بعلمهم وفكرهم وفلسفتهم واعتمادهم على الكتاب المقدس والتقليد الرسولي، لا على القتل والدم والعنف كما حاول أن يصور د. زيدان وتلاميذ المدارس الغربية الإلحادية!! فيقول: "ولكن المسيحية في مصر، في هذه الفترة التي تعرضت لها قصتنا كانت في منتصف الطريق، فلم تكن قد هوت الضربة القاصمة بعد. كانت المعركة الفلسفية على أشدها بين فلاسفة اليونان والآباء المسيحيين الأولين". 
وصور لنا كنجزلي مقتل الفيلسوفة المصرية ذات الأصول اليونانية هيباتيا أو هايبيشيا، كثمرة طبيعية ونتيجة لما حدث من عنف. بل ولم يبرئ كنجزلي ساحتها ولم يعفها من المشاركة في مصيرها التي ألت إليه ولم يصورها كما فعل د. يوسف زيدان كالقديسة التي بلا عيب في موجهة الكهنة الأشرار!! اسمعها تقول في لومها لنفسها عندما أحست بالخطر: "أنا الملومة. وعلي وحدي يقع عبء كل شيء. لقد أهنت نفسي بسيري في ركاب السياسة، والذي يسير في ركاب التملق والدهاء لا يعلم أين يمضي".
بمجرد ما ان نشر د. يوسف زيدان الرواية حتى صارت ضجة عارمة، اذ ان الرواية تتناول - على لسان ابطالها - بالقدح الكنيسة التي قال عنها "الكنيسة التي اظلمت العالم"، ورموز المسيحية في العالم وعلى رأسهم البابا يرلس الاول فيقول على لسان هيباتيا "كيرلس.. عجلت الالهة بنهاية ايامه السوداء".
ونلاجظ ان الدكتور في روايته امتدح ومجد الهراطقة وأعتبرهم، مع تناقض أفكارهم، أنهم هم الذين يمثلون المسيحية الحقيقية، فقد ذكر اسماء 3 من الهراطقة وامتدحهم رغم ان الواحد منهم يناقض الاثنان الاخرين!! 

3 أغسطس 2017

رواية: العمى

CecitàCecità by José Saramago
My rating: 5 of 5 stars

الرواية توجد عالمها الخاص وتمنعك من رؤيته، فهي لا تذكر اسماء للاماكن ولا لشخصيات الرواية. وهنا فقط يداهمك شعور العمى، وهنا – وفقط هنا – تعرف لماذا حازت هذه الرواية جائزة نوبل عام 1998. تتحدث عن انتشار وباء بشكل مفاجئ "العمى الابيض". مما يجعل الفوضى تعم ارجاء البلاد. يلجأ الجيش لاستخدام القمع واجراء حجرا صحيا للسيطرة على الاوضاع.. وتتفاقم الامور سوءا ، ويظهر اسوأ ما في البشر من الطمع والاغتصاب والقتل، في ظل سوء توزيع الغذاء والادوات الطبية وغيرها وتظهر عصابات مسلحة تستخدم العنف.. ربما كل هذا صور مما يصيب بعض البلدان اوقات الشغب والثورات والحروب والنكبات الطبيعية، اذ تنعدم الاخلاق. كما تلقي الرواية نورا ايضا على محاولات البعض لمواجهة الفوضى عن طريق التضامن معا. وهذا ما فعلته زوجة الطبيب، اذ قامت بمساعدة زوجها ومجموعة اخرى من النساء.. فهي من البداية - ورغم كونها مبصرة - رفضت ان تفارق زوجها ، وادعت اصابتها العمى لترافقه في الحجر الصحي.
اعتقد ان ملخص الرواية والغرض منها يتضح في كلام زوجة الطبيب وهي الشخص المبصر الوحيد في الرواية، ا ذتقول:
"لا اعتقد اننا عمينا. اننا مبصرون ولكننا عميان" في اشارة لانعدام الاخلاق. ومقولتها هذه تذكرنا بما قاله السيد المسيح لليهود: "(يو 9: 41) قال لهم يسوع:«لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية. ولكن الان تقولون اننا نبصر، فخطيتكم باقية.


View all my reviews

قصاصات من رواية - العمى


كان الرجل الجالس خلف مقود سيارته يردد يائسا :
- "انا اعمى، انا اعمى!" 
حاول الناس مساعدته على الخروج من سيارته، بينما الدموع الطافرة من عينيه اللتين يدعى فقدهما البصر، جعلتهما تظهران اكثر تألقا.
- "تحدث امور كهذه"، قالت سيدة.
- "ازمة وتمر"، قال رجل.
"يحدث ذلك لاسباب عصبية احيانا"، قال رجل اخريبدو انه كان طبيبا.
تغيرت اضواء اشارة المرور، تجمع بعض المارة الفضوليين حول سابقيهم، احتج السائقون الذين في المؤخرة، ولم يعرفوا ماذا يجري، على ما اعتقدوا انه حادث عادي: تحطم مصباح سيارة، انبعاج جانب سيارة..
"اطلبوا الشرطة"، صاحوا، "واخرجوا هذه الخردة من الطريق.
توسل الاعمي: "ارجوكم ليأخذني احدكم الى بيتي".
اقترح احدهم ان يقود سيارته ويوصله الى بيته. اجلسوه في المقعد الامامي. وفي السيارة رفع الرجل الاعمى يديه الى عينيه وقال "يبدو انني غطست في الضباب، او سقطت في بحر من الحليب".
"لكن العمى مختلف عما تقول"، قال الشخص الاخر "يقولون ان العمى اسود".
"حسن ، لكني ارى كل شئ ابيض. الارجح ان ذلك الرجل كان على صواب".
"نعم، قد تكون مسألة اعصاب، فالاعصاب شئ غاية في التعقيد"
"لا احتاج ان تشرح لي عنها، انها كاثة. نعم كارثة"
"قل لي اين تقطن"
اجاب الاعمى متلعثما، وكأن فقان بصره قد اضعف ذاكرته: "
كان بيته قريبا. لكن الارصفة كانت مكتظة، لم يجد مكانا لصف السيارة.
دخل الى شقته وحالما جلس على الاريكة، اغمض عينيه.. وراح يفكر. تمنى ان يكون في حلم، حلم مخادع.. حلم يجب ان يخرج منه عاجلا او اجلا.
"استيقظ.. استيقظ! ما الذي تفعله هناك، نائم؟"، سألته زوجته.
لم تنتظر الرد، وشرعت تفرغ حقائب بها بعض المشروات في المطبخ، ومن حين لاخر تغمغم بغضب تعمدت عدم اخفائه..
اقتربت منه، فتح عينيه.
"استيقظت اخيرا ايها النوّام!"، قالت مبتسمة.
صمت هنيهة ثم قال: "انا اعمى!"
نفذ صبر المرأة "كف عن هذه الالاعيب الصبيانية. هناك امور لا يجب المزاح بها"
"ارجوك لا تخفني. انظر هنا"
احتضنته وبدأت تبكي.. غمغم، "اني ارى كل شئ ابيض، وابتسم ابتسامة حزينة. جلست المرأة قوية، احتضنته بقوة، ثم قبلته بلطف على جبينه، وعلى خده برقة، سترى انها ازمة وتمر، فانت لم تكن مريضا، لا احد يعمى هكذا بين لحظة واخرى.
امسكت بالتليفون، سألت ان كانت هذه عيادة جراحية، وان كان الطبيب موجودا، وان كان بوسعها التحدث اليه. ان زوجي قد اصيب بعمى مفاجئ.
استوقفا تاكسيا.. في الطريق كانت المرأة تعصر يد زوجها في يدها بحنان. بينما احنى رأسه بحيث لا يستطيع سائق التاكسي ان يرى عينيه في المرآة.
اتصل الطبيب بطبيب اخر صديقا له،قال:
"اني واجهت اليوم حالة هي الاغرب.. بعد الغداء سأبحث في الكتب، سأنظر في بعض المراجع لعلني اجد مفتاحا ما. نعم اني ملم بموضوع العمى، قد يكون عمى نفسي. لكن عندئذ ستكون هي الحالة الاولى من نوعها. وكما نعلم فان العمى النفسي هو العجز عن تمييز الاشيلء المألوفة، لانه خطر لي انها قد تكون ايضا حالة عمى جزئي.
انهى الاتصال وجلس في كرسيه ساكنا لبعض الوقت. ثم نهض، خلع مريوله الابيض ببطء وبحركات متعبة. دخل غرفة الحمام ولكنه لم يسأل نفسه، هناك الاف الاسباب لانغلاق الدماغ.
عاد الى البيت، اخذ بعض الكتب من مكتبته.. راح يقرأ.. الى ان شعر بالخوف فجأة، كأنه سيعمى في غمضة عين.. وقد كان.