عن كتاب: فن القصة القصيرة، رشاد رشدي .
في رواية (مدام بوفاري) يستمر فلوبير في قصته فيروي لنا اثر انتحارها على زوجها وعلى عشيقها (رودلف) – وكيف اكتشف زوجها خيانتها له وكيف اصبح زوجها ورودلف شبه صديقين! - اننا حتى قبل موت بوفاري قد عشنا مع الكاتب وقتا طويلا وادركنا ما كانت تعانيه مدام بوفاري من حرمان كما ادركنا نزعاتها ونزواتها والعوامل التي دفعتها الى خيانة زوجها واحساساتها ومشاعرها المختلفة نحو كل ما يحيط بها – باﻻختصار ادراكنا لماساتها ﻻ يحدده كونها انتحرت.
***
ان اسلوب التقرير في وصف الشخصية ﻻ يجدي نفعا. الحاجة هي الى لغة التصوير وليس التقرير. اذ يرينا الكاتب صفات الشخصيات من خلال افعالها.
ويجب ان يتخلل المعنى القصة في البداية والوسط والنهاية. اما اذا احتوى جزء منها فقط على المعنى دون باقي اﻻجزاء فان ذلك يعني ان القصة ﻻ تصور حدثا متكاملا. فلا يمكننا مثلا ان نتصور شاكسبير يصرح ان عطيل كان مطبوعا على الغيرة او ان بوفاري قد راحت ضحية اهوائها المتقلبة..
ويمكننا ايضاح ذلك من مقارنة ما كتبه موم عن كاستيلان بلغة التقرير فيخبرنا بكلمات مباشرة فيقول انها "فقدت رشادها حين تلقت خطاب حبيبها..”. فيما نجد فلوبير في رواية "مدام بوفاري" يجسد بلغة حية شعور ايما وهي تتلقى خطاب من عشيقها يخبرها فيها انه راحل عنها، وهو ﻻ يلخص لنا ما شعرت به وﻻ يقرر انها خافت وارادت ان تنتحر. بل يتحفنا بلغة تصويرية حية فيقول: “كلما ركزت فيما تقرا كلما اضطربت يدها. وراته من جديد وسمعته. واحاطته بذراعيها وترددت خفقات قلبها في صدرها وكأنها ضربات معول، وازدادت سرعتها شيئا فشيئا ونظرت حولها وودت لو انهارت الدنيا. لماذا ﻻ ينتهي كل شئ؟ انها حرة. وجذب الشعاع المضئ جسمها الى الهاوية. وبدا لها ارض الساحة تتحرك وقد تسلقت الحوائط وانها تتأرجح كما لو كانت قاربا يهتز. وزرقة السماء تشملها والهواء يدوي في راسها الفارغة، لم يكن لها اﻻ ان تسلم نفسها، وصوت الطنين ﻻ يتوقف ابدا كصوت غاضب يناديها، وصاح شارل "ايما. ايما".
وتوقفت..
اين انت؟.. تعال.
وكاد يغمى عليها من الرعب عندما ادركت انها نجت من الموت وهي اقرب ما تكون اليه.”.
في قصة (الحرب) للويجي بردينيللو ، يصور لنا مشاعر الاهل تجاه ابنائهم.. فالسبدة التي ذهبت لتودع ابنها نجدها وهي تستمع لقصة رجل فقد ابنه في الحرب. في نهاية الحوار، وكأنها لم تنصت لاي كلمة من حديثه، تسأله وكأنها استيقظت من حلم للتو:
هل مات ابنك حقا؟
ويجيبها الرجل، وكأنه هو ايضا يستيقظ من حلم، وگأنه للتو يعرف ان ابنه مات وهو الذي كان منذ قليل يواسيها، يجاوبها بنحيب. الاب الذي كان صابرا ومحتملا لفقدان ابنه ينهار فجأة.
في قصة ( الشقاء) لتشيكوف نراه يصور حزم الحوذي لوفاة ابنه ولكنه مع ذلك ﻻ يحاول ان يستدر العطف فهو يشبهه بالشبح ويشبه مهرته بالدمية، وكلاهما ﻻ يشعران بحزن او فرح. ونراه يبتسم ابتسامة بحرج حين يعلق الضابط على اضطرابه متفكها – فيلتفت اليه ويقول:
“ابني. ابني مات هذا اﻻسبوع يا سيدي..”.
ويتشجع يونا اذ يسال الضابط كيف مات ابنه ويبدا يبوح باحزانه .. ولكنه يعود فيحجم عن ذلك ﻻن الضابط مشغول عنه.. وينزل الضابط.
ويعود يونا لعزلته واحزانه منكمشا.
ثم يبدا المنظر الثاني بثلاث شبان.. ونراه يعلق على فكهاتهم وسخريتهم بقوله المتكرر "هه شبان يمرحون..”.
وفي المنظر الثالث يعود الى اﻻسطبل حيث ينام حيث ينام الفقراء امثاله ويحاول ان يبوح باحزانه لاحد رفاقه لكنه يفشل.. ويعود به التفكير الى عمله فيطمئن على مهرته قبل ان ينام.. ويراها تاكل ويحدثها عن ندمه لعودته مبكرا دون ان يكسب قوت يومه.. ونحن نعلم انه لم يذهب لمهرته ليحدثها عن احزانه بل ليطمئن عليها قبل ان ينام. ولكن الحديث يقوده الى عجزه عن كسب قوت يومه والى انه اصبح ﻻ يصلح للعمل وان ابنه اصلح منه – ولكنه قد مات – ويحاول ان يقرب الفكرة الى المهرة فيقول:
تصوري ان لك مهرة صغيرة – وانت ام لهذه المهرة – وماتت – ستاسفين لموتها – اليس كذلك؟
والمهرة تاكل في صمتا وتنصت كما لم ينصت انسان من قبل .. وهنا ينفجر الينبوع. ويقص ايونا على المهرة قصة احزانه كاملة..
ﻻ يقل تشيكوف ان عالم الناس قد الجا ايونا الى عالم الحيوان ليجد العطف عنده بل يجسمه
في قصة "عصفور الكناري الواحد" يشير ارنست هنجواي الى انكسار الحياة الزوجية بين الراوي وزوجته. عن طريق المقارنة او المفارقة تبلغ مداها في لحظة التنوير في خاتمة القصة. عندما نقرا "كنا قد قررنا اﻻنفصال – انا وزوجتي – كنا عائدين الى باريس ليجد كل منا سكنا مستقلا". فيما كانت الزوجة تتحدث مع راكبة اخرى تستقل نفس القطار مع ابنتها عن البلدة التي قضيا بها شهر العسل. وللمفارقة كانت السيدة تغادر الى نفس البلدة لتبعد بابنتها عن فتى احبته وتريدها ان تنساه، وهي تشتري لها عصفور كناري (واحد) في قفص ليسليها، وهذا اشارة للوحدة.. والسيدة تعتقد ان كل اﻻزواج اﻻمريكيين سعداء حتى انها تقول "ان لم تجد ابنتي امريكيا لتتزوجه فخير لها اﻻ تتزوج". بينما - للمفارقة- زوجة الراوي ﻻ تشعر بالسعادة مع زوجها الامريكي و هما بالفعل قد قررا اﻻنفصال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يثري الموضوع