الصفحات

12 يناير 2016

موت ايفان ايليتش


تولستوي من اروع الادباء الذين يمكن ان تقرأ لهم بدءا من رواية "الحرب والسلام" انتهاءا بهذه الرواية التي تسرد قصة وفاة احد الاشخاص المرموقين، من خلال هذه الرواية يعكس تولستوي معنى الحياة. انه يريد ان يطرح هذا السؤال، هل هناك فعلا معنى للحياة؟ هل هناك ما يجعل الحياة تستحق ان تعاش؟ انها قصة حزينة ولكنها مليئة بالمعاني والدروس العظيمة.

عندما بدأت قراءة هذه الرواية لم اكن اتوقع ان استمتع فعلا بقراءتها. لكن ما ان وصلت حتى الفصل الرابع لم استطع ان اترك الرواية. هذه الرواية سهلة جدا في قراءتها لأنها ليست طويلة اذ يقع حجمها بين القصة والرواية. كان تولستوي بارعا في سرده، موجزا جدا في عباراته، وكل المواقف الثانوية الواردة ذات صلة مباشرة بالموضوع الاساسي ومكتوبة بشكل جميل. اعتقد ان تولستوي يضع خبراته في الحياة في هذه القصة. 

يصف تولستوي مرض إيفان إيليتش بطريقة تجعل القارئ يشعر تقريبا بما كان عليه حال ايفان. كان إيفان إيليتش موظفا حكوميا في مرتبة عالية في الحكومة ابان حكم القياصرة في القرن التاسع عشر في روسيا. كان لديه كل مظاهر "الحياة الناجحة": عائلة محترمة، وظيفة مرموقة، منزل جميل. وهو قبل كل شئ طيب النوايا والمقاصد في الحياة. ولكنه هل كان يعيش حقا؟

عندما يشعر باقتراب الموت منه يبدأ في التفكير جديا كيف كان يجب أن يعيش. انه كان يحيا منجرفا مع تيار الحياة بنمط معيشة معين. قبل هذا النمط من الحياة دون تفكير مدفوعا بلهفة شديدة لتسلق السلم الاجتماعي. انه يسلك الطريق البيروقراطي في حياته المهنية. مواطن بارز، متزوج ، على صلة بصفوة المجتمع. حقق قائمة واسعة من الإنجازات، ولكنه يجد الموت يقرع على بابه في احد الايام. فكيف يقابله؟

الشئ نفسه دائما: فتارة بريق امل وتارة اخرى عاصفة يأس، ودائما هذا الالم وهذا القلق. الشئ نفسه دائما.
الوحدة تعذبه، ولكنه يعلم مسبقا انه ان جاء احد الاشخاص (ليسليه) ساءت الحال ايضا.
فما ان بدأت سلسلة الاحداث التي آلت في النهاية الى ايفان حتى تبددت الان امام عينيه جميع الافراح التي عاشها والتي بدت انذاك افراحا ولكنها تحولت الآن الى شئ تافه وحقير. 

تولستوي يصف ببراعة مشاعر ايفان:
  1. يصف معنوياته التي تضعف بالتدريج امام المرض غير القابل للشفاء. الوضع النفسي السئ الذي يعجز عن الهروب منه.
  2. ويصف ايضا شعوره تجاه زوجته التي اصبحت كيانا متجسدا لالامه – كيانا يمشي ويتنفس مجسدا لهذا الألم. لم يعد يطيق رؤيتها، وصوتها، ورائحتها. انها كابوس بالنسبة لرجل على حافة الموت.
  3. ثم يصف مشاعر ايفان تجاه الذين حوله - انه يشعر انه اصبح عبئا على من حوله؛ شاعرا ان الجميع ينتظرون فقط أن يموت.
  4. يصف مشاعره وهو مضطر للاعتماد على اخرين للمساعدة في تخفيف معاناته. يصف مشاعره تجاه الاطباء الذين لجأ اليهم ليداووه او ليخففوا من الامه. ثم مع تقدم مرض ايفان الغامض يبدأ في تقبل المساعدة من عبده الذي اظهر له الرعاية الكاملة بانكار حقيقي للذات. 
  5. يصف مشاعره وهو يصارع مع الوجود، ومع الله ... "لماذا انا؟ لماذا يحدث هذا لي!"
  6. واخيرا يصف مشاعره تجاه الالم والموت ذاته، حين يقول: "تعال ايها الالم. تعال ايها الموت!"

في البداية، يقابل الموت بعدائية ثم بتسليم للقدر - يواجه إيفان موته الوشيك، بالانكار اولا، ثم يتحول الإنكار إلى غمرة اليأس وهو يتصور العالم يسير بدون ان يكون جزءا منه. انه يجد ان عائلته والمقربين ينظرون إليه بعين الشفقة الى درجة ما، ولكنهم يبقون غير مبالين وبعيدين عن الاحساس بمعاناته.

ولكن بعد ذلك في نهاية صراع طويل مع المرض والتعب النفسي، يجد ما نحن جميعا نأمل في العثور عليه، يجد السلام. انه يرى أن الموت ليس هو نهاية الحياة، ولكنه بدايتها. حينما كنت صغيرا كنت أعرف النجوم، كنت أحبها واحفظ أسماءها: الزهرة، الجوزاء، الدبان - الدب الاكبر والاصغر.. الخ. كيف امكنني أن أحب تلك الأضواء رغم ما تبدو عليه من ضعف وخفوت ورغم بعدها الشاسع عني؟ كيف استطاع ايفان ان يحب الموت- هذا الشئ البارد القاسي والضيف الثقيل. حتى انه يخاطبه في النهاية : 

"تعال ايها الالم. تعال ايها الموت!"

إيفان ينظر للموت بعين الإحباط وليس الخوف. لقد صعقه أن يرى حياته تختزل إلى قائمة تافهة من الاعمال التي يقوم بها بشعور سخيف من صنع الواجب جاعلا وقته في هذا العالم حتى أقل من قصة تحكى للاطفال قبل النوم. "موت إيفان" اذا يضع القارئ في مواجهة مع موته هو. يكشف ايفان النقاب عن الطبيعة المتقلبة، الجامحة والغامضة، ويكتشف ما يفوق محدودية وجوده.

تولستوي يقدم انعكاسا رزينا لعجز البشرية في سبر غور المرض والالم والموت. انه يلقي فلاش باك في شكل الراوي الملم بكل التفاصيل الظاهرية والباطنية لايفان، ويروي قصة وفاة هذا الرجل بطريقة مفصلة، ويحاول ان يصف الالام الجسدية والروحية والنفسية بتفصيل مؤلم في قصة واقعية مؤثرة.

قال احدهم:

في كل مرة اعيد قراءة رواية تولستوي "موت إيفان" أقرأها بشكل مختلف. حين كنت طالبا جامعيا قرأتها كأنها وصف لتجربة شخص مسن، واتصورها تجربة بعيدة، غير واقعية تقريبا، غريبة، سريالية. قرأتها مرة أخرى خلال سنوات عملي كطبيب، أعجبت بعبقرية تولستوي لوصف مراحل الحزن، وبعد ذلك مشاعر الغضب، وكيف كان مرضاي لهم تجارب مماثلة، كما أعتقد، محاولا أن اكون أكثر صدقا وحساسية من الأطباء الوارد ذكرهم في القصة.
الآن، وانا طبيب متقاعد في العقد السابع من عمري، أجد أنني اراها بشكل مختلف، أن إيفان وهو رجل في الأربعينات من عمره عند وفاته، تسامح مع مواقف أصدقائه وأفراد أسرته، وبدأ مراجعة جادة لحياته وتقييمها، والاستجابة لالحاح السؤال عن معنى الحياة وعن ماهية الموت. 

تولستوي يضعنا وجها لوجه، مع الموت، مع الحياة؛ الحياة الحقيقية مقابل الحياة الزائفة. انه يفعل لك كما لم يفعله أي كاتب آخر من قبل. انه يسمح للقصة لتلقي كامل ثقلها على القارئ وتسرد بنفسها. تولستوي لا يضيع الوقت في الولوج سريعا في رحلة حياة إيفان وتحولها من الحياة التقليدية لمواجهة ما يختبئ وراء الحياة، اعني الموت. عن طريق الاختباء من الموت وجد ايفان نفسه أيضا يختبئ من الحياة. لقد وجد انه بمسح الزجاج او المرآة وتلميعه ليظهر بوضوح بريقه. وجد انه يعكس ما هو الموت وما هي الحياة الزائفة، ليترك الباب مفتوحا أمام فرصة رؤية الحياة الحقيقية وعيش ما هو حق. أنه يفتح إمكانية رؤية الموت ككيان مستقل في حد ذاته.

ايفان الذي يدرك قبل موته بساعات فقط أنّه بسبب خضوعه لدوره الرتيب في مسرحية المجتمع و توزيعه الطبقي و الوظيفي كان قد أمضى حياته كما لا يجب أن تكون- حياة خاليةً من العواطف و الحميمية و مليئة بالأخطاء حتى، سلّم نفسه للموت مرتاحاً حين أدرك أنّ حياته لم تكن غير موت طويل و أنيق 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يثري الموضوع