ايها الروح! يا من تنزل من طهر فؤاده – فلقد كنت قائما منذ بداية الوجود – باسطا جناحيك الجبارين فوق الهوة الشاسعة، ثم رقدت فوقها مثل الحمامة، حتى دبت الحياة في احشائها.بدد ظلمات نفسي!
شد ازري وثبت دعائم كياني! لعلي استطيع تبيان
العناية الالهية ، شارحا حكمة ما يفعله الله بالانسان.
ايها الروح! حدثني عن جدينا العظيمين وهما
هانئان في اعطاف النعيم وهانئان برضا الله.
واخبرني عما حدا بهما ان يغضبا الاله العظيم
خالقهما.
من الذي اغواهما بهذا العقوق الذميم؟
انه الثعبان الدنئ! (الحية القديمة، ابليس)
لقد ثار مكره الدفين، نازع الحسد قلبه فخادع
ام البشر، بعد ان لفظته الجنة لغروره وخيلائه ومعه اتباعه، حشد كبير من الملائكة
العصاة.
طمع في ان يضارع منزلة الله، وهكذا حفزه هذا
المرمى الى تحدي الله واثارة قتال في الجنة : معركة يشنها الخيلاء وحصادها
هباء!
وهكذا انقلب ساقطا يتقد لهيبا، تغله الاصفاد
، ويصطلي بعذاب الحريق.
انبطح مع رفاقه في هوة الهزيمة يتقلبون في
لجج اللهيب.
بدأ في التفكير في سعادته الغاربة وعذابه
المتواصل، فاخذ يقلب عينيه الخاسئتين فيما حوله ،
عينيه اللتين شهدتا على الالم والخسران
المبين، وما اختلط بهما من الغرور العنيد والحقد الشديد.
وسرعان ما ادرك ضنك حاله وضياع مآله.
(مثواه) نار بلا نور!
بل ظلمات لا تكشف الا عن مشهد كرب.
وظلال غم وهم، وساحات قد انتفى منها الامل.
منابع كبريت لا تخبو جذوته ولا ينضب له معين.
وسرعان ما ابصر رفاقه يتقاذفهم بحر النيران
المتلاطم ودومات السعير العاصفة!
وعرفته اسرائيل بعد ردح طويل واسمته بعلزبول.
بينما اصبح اسمه في السماء ابليس.
ما ابعدك عمن كنت اراه في اصقاع النعيم
الوضاءة، يشع بهاءا علويا يطغى بريقه على الالاف!
ما احط وهدة المهوى وارفع جنة المأوى!
(وهوذا الله) دافعا الى المعمعة الضاربة بقوة
لا يحصى عددها من الارواح المدججة ممن تجاسروا على مناوئة حكمه، وانحازوا الى
صفوفي، فقارعوا قوته العارمة بقوة غاشمة، في معركة زلزلزت عرشه.
وماذا ان خسرنا الموقعة؟
اننا لم نخسر كل شئ . ما زالت لدينا عزيمة لا
تفل.
اننا نستطيع اذا حزمنا امرنا – يحدونا امل
اصدق- ان نشن – عنوة او بالمكر – حربا سرمدية.
هكذا تحدث الملاك العاصي – رغم عذابه –
متباهيا، زاعق النبرة يعتصره يأس عميق.
ولم يلبث ان جاءه الجواب من رفيقه الجسور:
ايها الامير! يا زعيم العديد من الصناديد
المتوجين!
يا من قدت المقاتلين الافذاذ من طغمة
الكاروبيم في حومة الوغى، فقاموا تحت امرتك بافعال رهيبة!
ان الحادث الرهيب ليمثل امام ناظري فيثير
الاسى.
يا للتهلكة المخزية ويا لدرك الحضيض الخفيض!
لكن ما زال الذهن منا والروح صامدين، وسرعان
ما سيعود بأسنا شديدا رغم انطفاء جذوة المجد والبهاء، ورغم ان بهاؤنا قد ابتلعه
الى الابد يمّ الشقاء!
ولكن لماذا (لم يفنينا) قاهرنا الجبار- اتراه
قد ابقى على هذه النفس وقوانا كاملة حتى نقوى على مر المعاناة واليم العذاب، فنشبع
غضبه؟ ام لننهض باعباء ما يأمرنا به وقد صرنا عبيد له؟
سواء كنا في قلب النار نكتوى، او نقضي له
المارب في المحيط البهيم.
وما جدوى قوتنا التي لم تنتقص وكياننا
السرمدي؟
وسرعان ما جاء رد الشيطان الاكبر:
ايها الملاك الذي هوى! ثق في قولي– انك لن
نفعل خيرا بل سنرى الشر دوما متعة مثلي .. فنجعل من الخير سببا للشر.
جون ملتون - الفردوس المفقود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تعليقك يثري الموضوع