ذات
يوم رأيت عملية خطف لاحد الاشخاص.
استغرقت
عملية الخطف ثوان قليلة. كنت
في طريقي الى مطار بيروت العالمي عندما
توقفت سيارة الاجرة التي استقلها بسبب
زحام المرور. فجأة
رأيت عن جانبي الايمن اربعة رجال مسلحين
يسحبون رجلا خارج بيته. وكانت
هناك امراة، ربما زوجته، تقف بالداخل
وتظهر من خلال فتحة الباب نصف المغلق وهي
ترتدي رداء
النوم وتصرخ.
كان الرجل
يقاوم بكل قوته، ونظرة رعب تظهر في وجهه.
بكيفية
ما هذا المشهد ذكّرني بمجموعة لاعبي كرة
القدم يحملون مدربهم في الملعب بعد فوزهم
في احد المباريات، والاختلاف ان ما رأيته
هذه المرة لم يكن احتفالا.
خلال
ثانية واحدة تقابلت نظراتي مع هذه الضحية
اليائسة، قبل ان يحمل الى سيارة كانت في
انتظار الخاطفين. نظراته
لم تقل لي "انجدني":
كل ما
تحدثت عنه فقط الخوف. هو
عرف انه ليس بامكاني نجدته.
هذه كانت
بيروت.
بعد
لحظات تحرك المرور، واسرعت سيارتي الى
المطار. السائق
اللبناني، الذي ثبت نظره الى الامام طوال
الوقت، لم ينبث ببنت شفا عن المشهد المرعب
الذي يكشف عنه نظرات عيناه.
ولكنه
تحدثا بدلا من ذلك عن عائلته، وعن السياسة،
وعن اي شئ اخر فيما عدا ما رأيناه امامنا.
بينما
هو يتحدث، كان ذهني محصورا في الرجل ضحية
الاختطاف. من
هو؟ ماذا فعل؟ ربما كان شريرا والخاطفون
اخيارا، وربما العكس؟
كانت
بيروت مدينة تثير اسئلة اكثر من الاجابات
عليها، لكلا الفريقين – الذين يعيشون
فيها او لا يعيشون فيها. اكثر
الاسئلة من اصدقائي وعائلتي عندما عدت
بدأت ب "كيف؟"
– كيف
يمكن للناس هناك ان يتعاملوا مع هذا الوضع؟
كيف يطيقون البقاء هناك؟ كيف يستطيع البشر
ان يعيشون في مدينة قتل بها اكثر من 100
الف شخص
خلال 14 عاما
هي عمر الحرب الاهلية هناك؟
اجابتي
كانت ان بيروت تحتاج الى اشياء كثيرة،
اولها واهمها، خيال جامح.
لانه في
خلال ثوان قليلة هي مدة الرحلة الى المطار
او الى متجر بقالة يمكنك ان ترى، ليس فقط
مشهدا لم تراه من قبل طوال حياتك، لكن
ايضا شيئا
لا يمكنك تصور حدوثه.
صديقي
امنون شاهاك اخبرني بهذا.
حكي لي
عن الايام التي تلت غزو اسرائيل للبنان
عام 1982. قبل
ايام من تقلده مهام منصبه كانت الميلشيات
الدرزية والمسيحية (الكتائب)
قد اشتبكت
في صراع دام بالدبابات
والصواريخ. لقد
حكى شاهاك لي عن اول يوم
له هناك، عرف منه انه لم يكن
قد عرف شيئا بعد عن لبنان،
على الرغم من
انه جندي قوي ومحنك،
لكن ما رآه في لبنان فاق كل تصوراته.
"اول
ليلة بعد وصولي" قال
امنون وهو يستعيد ذكرياته "نمت
في غرفة صديقي "علي"،
في منطقة الشوف، والتي كانت
مركزا
للقيادة.
في حوالى
الساعة 9 مساءا
اتى مجموعة من مشايخ الدروز الى مركز
القيادة وطلبوا رؤيتي. كانوا
غاضبين. لم
يكن ليخبروني سبب انزعاجهم.
فقط كرروا
القول "من
فضلك، يجب ان تأتي معنا"،
كنت قد وصلت للتو الى المدينة.
بدى انهم
غاضبين جدا، لذا فقد رأيت انه من الافضل
ان اذهب معهم. عندما
دخلنا الى المستشفى ، كان هناك زحام حوالى
مئة من الدروز يقفون امامها.
كانوا
يصرخون ويلوحون بايديهم بغضب.
اخذوني
الى الداخل ووجدت امامي ثلاثة اسرّة،
احدها عليه اذرع بشرية والثانية جذوع،
والثالثة ارجل. قالوا
لي انها لشيوخ دروز قتلهم المسيحيون
ومثّلوا بجثههم. بدى
امامي انهم شيوخ لان الرؤوس كلها لها لحى.
كان
المشهد حقا
صادما" تابع
شاهاك يقول
"لم
ارى ابدا شيئا مثل هذا خلال سنوات تجنيدي.
قررت انه
مهما كان التوقيت يجب ان اذهب الى قيادة
الكتائب في
بيروت واطلب منهم ايضاحا. لذا
فقد اخذت السيارة الجيب ونزلت الى بيروت.
فؤاد ابو
نادر، احد قيادات الكتائب،
كان في انتظاري مع بعض رجاله.
كان طبيبا
متمرنا. طلبت
تفسيرا لما رايته. كان
يصغي وهو هادئ. وعندما
انتهيت من وصف كل شئ رايته، قال لي "اه،
اعرف هذه الخدعة" قال
انه كان يوجد قتال ذلك اليوم بين بعض رجاله
وبعض الدروز وبعض الدروز قتلوا في هجومهم
على الكتائب
في محاولة ﻻحتلال
مواقعهم، وتركت الجثث في ميدان المعركة.
قال ان
الدروز اخذوا الجثث ثم مثلوا بها ليجعلوا
الامر يبدو كما لو ان المارون من
فعلوا ذلك،
واحضروها الى "على"
ليثيروا
حفيظته. هززت
رأسي بأسف. ادركت
في تلك اللحظة انني وسط لعبة لم افهمها.
بعد
ان قضيت 5 سنوات
في بيروت، استطعت ان اكوّن صورة عن المدينة.
توصلت
الى استنتاج ان بيروت تشبه الثقب الاسود،
اكثر الجوانب اظلاما في السلوك البشري،
غابة متمدنة حيث لا يطبق فيها حتى قانون
الغابة. ذلك
الثقب الاسود لا
يترك فقط ندوبا
بل ايضا يكوّن
عضلات جديدة. بعد
ان تعيش في بيروت لفترة
وجيزة ﻻ تعد الحياة ﻻ
تعد تقدم لك مفاجاءات او صدمات اكثر،
وتشعر وكأنك ترتدي
حلة مضادة للرصاص.
في
يوم 8 يونية،
1982م.
الهجوم
الاسرائيلي على لبنان بدأ
قبل 48 ساعة.
كنت انا
ومحمد كسراوي، سائقي في
بيروت والذي يعمل
في الوكالة
منذ 1953،
كنا نغطي اخبار
تبادل اطلاق ناري بين القوات السورية
والاسرائيلية. هذا
المساء، عندما عدنا الى المنزل،
وهو قصر
فاخر ذو 6 طوابق
يطل على البحر، نزلنا من السيارة لاجد
في مقابلي "نادية"
خادمتي،
تطل من الشرفة في حالة من الرعب الشديد
وهي تقول "لدينا
زوار”.
كان
يقف في موقف السيارات عائلة فلسطينية
كبيرة – اب، ام، جدة، مع اطفال رضع محمولين
على ايديهم،
واطفال متدرجي الاعمال يقفون الى
جوارهم. كانت
اعينهم مستديرة يملؤها
الخوف. كانوا
يحملون امتعة محشوة بالملابس.
اكثر ما
اتذكره هو الاب الذي كان يحمل مدفع رشاش
على كتفه. مثل
عائلات فلسطينية كثيرة اخرى اضطروا لترك
مخيم اللاجئين في جنوب لبنان بسبب القصف
الاسرائيلي الذي لا رحمة فيه والبحث عن
شقة في غرب بيروت بعيدا عن القتال الدائر.
حدث من
قبل ان 3 عائلات
فلسطينية بالفعل شغلت
الثلاثة غرف الشاغرة في منزلنا.
هذه
العائلة حاولت بالفعل اقتحام المنزل لكن
نادية استطاعت ابعادهم بصورة مؤقتة بقولها
لهم انني شخص اجنبي "ذو
علاقات" – والتي
تعني " انني
على صلة بالناس الذين يقتلون الناس
الاخرين”.
ما
رأيته في
اليوم الثالث للغزو الاسرائيلي للبنان
جعلني اعتقد انه من الكثر
امنا لي
ان استأجر
غرفة في فندق. زوجتي
لم تكن قد وصلت بعد الى لبنان، اذ كانت لا
تزال تنهي عملها في نيويورك.
تطوع
محمد ان يحضر اثنان من افراد اسرته –
ابنته حنان ذات 13 عاما
وابنته عزيزة ذات السبعة اعوام – الى
الشقة. لو
حاول اي لاجئون اخرون ان يقرعوا الباب،
ببساطة سيقابلون ببمن
يقول لهم
انهم ايضا فلسطينيون يفترشون الارض.
نجحت
الخطة حتى يوم الجمعة مساءا، 11
يونية،
عندما انهيت كتابة مقالي في جريدة التايمز
وكالعادة ارسلتها
الى المحرر عن طريق التليكس.
توجهت
الى فندق كومودور للمبيت. كان
السلم مظلما بسبب انقطاع الكهرباء منذ
يومين حين
نشب الاقتتال. انا
و زميلي بيل فاريل تحسننا
طريقنا الى الاعلى،
وعند اخر درجة في السلم
التقينا بشبح انسان، يلهث ومقطوع الانفاس
من الصعود بسرعة في نفس الوقت للحاق
بنا.
"توم؟
توم، هل انت هو؟" جاء
الصوت المألوف
لي والذي كان
لاحسان حجازي صحفي فلسطيني
يعمل معي.
"نعم
انا يا
احسان" قلت
بلهجة غير مكترثة "انه
انا".
"شكرا
لله، انك حي" قال
وهو يقبض على كتفي ووجهه مقابلي"يا
الهي" اطفال
محمد هناك. انهم
.. لقد
وقع انفجار و..
غادر
محمد لرؤية اطفاله في
الحال. تعثرنا
ونحن ننزل السلم بسرعة فائقة.
وخلال
الطريق ونحن في السيارة ظللت افكر في
نفسي، لا يمكن ان يحدث هذا لي.
انني
صحفي فقط. لماذا
منزلي؟ بالتأكيد
الناس يقتلون الصحفيون في بيروت، لكن انا
هنا منذ اسابيع قليلة.
عندما
وصلت انا وبيل
واحسان الى
المنزل، اول شئ رأيته
كان قطع من
نافذتي المعدنية المتحطمة نتجت من انفجار
على بعد 75 قدم
في موقف السيارة. الشقة
نفسها انشطرت نصفين
مع ركام على
كل اﻻرض.
اوعية
من الاستانلس مبعثرة خارج المطبخ.
امراة
لبنانية شقراء حشرت هي وابنها بين حائطين
سقطا معا مكونة بقايا حفرية لجسد بشري،
وزوجها المذهول يدور باحثا
في الجوار مثل "زومبي"
على ابنه
الاخر. نصف
المبنى الذي تهدم بفعل الانفجار انهار
ليكون ركاما يصل ارتفاعه
الى 30 قدما
في صورة بركان من الركام
الخرساني وقضبان حديدية وكتب وملابس
واشلاء ادمية غطت كل السيارات في الموقف
المجاور. متطوعو
الصليب الاحمر كانوا يقومون بانتشال
الناجين من تحت الانقاض.
الشئ
الثاني الذي رايته كان محمد وهو
يجلس على .. (يستكمل)
ترجمة عن كتاب: من بيروت الى القدس - توماس فريدمان