سجد ادم على راس عصاه وقال:
تعبت يا ابي في غربتي الردية، ولم اجد راحة لروحي فيها بعيدا عنك. هل ان الاوان؟ هل من نهاية لوجعي؟ هل تعود يداك اللتان جبلتاني لتحتضناني..؟
قال هذا وبكى.... حتى امتلات عيناه بدمع كنبع ماء غائر.
خيل اليه ان اصابع حواء الحانية امتدت لتمسح دموعه، كما اعتاد، فتح عينه ليجدها في نوم عميق.. غابت الاصابع .. ووجد رجلا واقفا قبالته، ممسكا في يده باداة مثل تلك التي كان يستعملها في الحصاد.. نظر ف عينه، واراد ان يساله من انت.. لكنه صمت حين راى دموعا فاضت من عينيه .. وهو ينحني عليه قائلا:
هل سيدي مستعد للرحيل؟
علم ادم بالامر.. فقال له:
غبت كثيرا..!
قال الرجل:
لا يقطف الثمر قبل اوانه.
قال له ادم:
الشجرة ماتت يوم ان نقلت خارج الجنة (يقصد نفسه).
اجابه الرجل:
قد لا تعود الاشجار الى الوراء ولكنها ترحل ثانية نحو الارض بشكل مختلف..
سكت قليلا ثم اضاف:
بقى الكثير من الشجرة هناك.. حتى بعد ان نقلت.. امامك ترحال اخر حتى تلتقي باصولك.
قال ادم بصوت اسيف وهو يشعر بصقيع يغشى رجليه:
كنت اظنها الرحلة الاخيرة.
اجاب الرجل:
هي فعلا الاخيرة في هذه الدورة.
شعر ادم بان رجلاه فقدتا من احساسه فقال:
ما هو الموت؟
نظر اليه قليلا في صمت:
هذا يتوقف دائما على مفهوم الحياة لديك.
ساله ادم:
هل اكمل الترحال معك؟
اجاب:
الى اي مدى يمكنك ان ترحل مع نفسك..
كان ادم يضم كفيه فوق بعضهما، مقاومة لذة شديدة ، لها وقع شبه الاغماءة على نفسه.. او كانه في حلم، لا يريد الاستيقاظ منه.
مالت الشمس ناحية الغروب، خارج الكهف. نظرها ادم وكانه يودعها .. ثم القى نظرة اخيرة على حواء ، مال عليها بحنو بالغ، طبع قبلة حارة ومعها الكثير من الدمع على راسها.. همس في اذنها وهي نائمة:
لا تتاخري عني..
قال هذا واطلق عينه في الشمس الذهبية، حيث خيل له ..
**
الوجه الساقط
نظر شيث الى اخيه متفحصا بعين تملؤها الدهشة.. لا يعرف لماذا ثبّت عيناه على يدي قايين، الذي ما ان لاحظ ذلك حتى دسهما داخل الفراء الجلدي الذي توشح به، وكانه كان يخفي شيئا ما، وتحرك، ومن حوله عشيرته، بعد ان عانق امه طويلا وبكيا معا، كانت هناك نغمة في بكائه تتجاوز حدث موت ابيه، الذي جاء خصيصا للمشاركة في مراسم دفنه، وهكذا كانت دموع حواء وهي تنظر من فوق كتف ابنها وكانما اتفقا ان ينظرا في وقت واحد الى قبر ادم المدفون توا، وبنفس الاتفاق التقت عيناهما بعيني شيث الواقف عن كثب في توقع لشئ من نحو اخيه لا يدر به.
تقدم شيث منجذبا اليه وبعد عناق حار اجهشا خلاله ببكاء مر غطى مع الوجوه خيبات ماض ملؤه الاغتراب والتيه والمعاناة.
كان يعلم بمجئ قايين بعد ان اخبرته امه بان حنوك الشاب ياتي كثيرا للاطمئنان على صحة جده ادم، خاصة في ايامه الاخيرة، واخبرته بانها رته خارجا في اخر مرة وبصحبته رجل يغطي وجهه، علمت من قامته ومشيته انه قايين ابنها الهارب المطرود..
تلفت قايين ثم نزل على ركبته ومرر يده على نقش ما في جدار قديم، كان النقش لسلة فاكهة يحملها احدهم.. ثمة كشط وتشويه الجدارية عمدا .. كان ذلك بيده هو في لحظة غضبه. كانت لحظة مصيرية في حياته.
تحركت احشاء حواء بوجع، حين رات في وجه قايين بقايا ملامح اخيه هابيل، متذكرة حلما رات فيه قبل الحادثة دماء هابيل تندفق من فم قايين، وقايين يبتلعها كلها بالرغم من توسلات هابيل ..
***
... قال قايين:
انا بنفسي سالت ابي اكثر من مرة، هل سبق ان رايت الحية؟ فقال لا.. لم ارها ولا مرة..
وسالته: هل قال لك الرب تزوج؟ فاجاب بالنفي قائلا:
- هو احضر حواء لي ولكنه وللحق – ترك امر الزواج لاختيارنا ككل الاشياء..
اومات حواء لواحدة من كناتها بمتابعة ما يطبخ في القدر المعلق، ولاخرى باخذ مياه ساخنة من قدر اخر لزوجة حفيدها.
بينما كان قايين يميل بوجهه ناحية اخيه مدمدما بلهجة ساخرة: من عند الرب!
فالتفت شيث ناحية قايين الذي اكمل ، اذا صحت رواية الحية على فم امنا، لماذا لم تصح رواية انني من عند الرب.. واكون انا الذي يسحق راس الحية..؟
فهم بعضهم اشارته لقتل هابيل، وشحبت بعض الوجوه.. ووجم الكل ، قال عيراد حفيده:
لماذا لم نعد للفردوس يا جدي لو صح ما ذهبت اليه.. وانتهت قصة السقوط والمعاناة بالنسبة لنا؟
اه.. يا لفردوس لم نراه.. وربما لن يرى!
قالها قايين بمرارة واكمل:
ولدنا مطرودين .. ثم انعزلنا..
***
قال قايين وهو يشيح بجسده وعينه عن شيث:
ان كنت تقول هذا لتهدئني فانت مخطئ!
صمت قايين ثم قال بصوت متهدج:
انا احبه مثلكم لم ارد ان اقتل اخي . ولم ارد الابتعاد والتغرب عنكم.. صدقني! كل ما اردته في حياتي اجد نفسي افعل غيره تماما..
ملعون انا قبل ان تلعنني الارض- لعنة تدفعني لهوة مظلمة. لا اريدها لكنني اشتاق اليها شوق من يريد الاختباء فيها من الحياة معه. تلك الحياة التي لم ستطعها ولم اطيقها. انا اهرب من نفسي، لا من وجهه.. وجهه الذي اشتاق اليه والذي لا اطيقه في ان واحد.
اختنق صوته وهو يقول:
انت شبعت من ابيك وبه . وانا حرمت من ابي ومنكم. للدرجة التي فيها كرهت كلمة اب. احيانا كثيرة انتهر ابنائي حين ينطقون بها.
ادعوني قايين فقط.. نعم اسمى الذي كرهته لانه ايضا يربطني به.
موضوعات ذات صلة: