قالت:"اه، يا يوحنا"متشبثة بيديه كما لو كان حبل نجاتها الوحيد.
"اقعدي، هدسة واحبريني بما يثقل قلبك هكذا".فظلت متشبثة بيديه غير راغبة في افلاتها البتة.كان السيد المسيح قد صلب قبل ولادتها بسنين، غير انها في يوحنا ، رأت الرب.
قال يوحنا:"ماذا يحزنك؟"
فاجابت ببؤس: "كل شئ يا يوحنا.كل شئ في هذه الحياة.لقد خرج ابي الى الشوارع لما كان الغيورون يقتلون الناسوادى شهادته.ولكني انا استحي من التفوه باسم يسوع جهرا". ثم بكت خجلا واضافت:"ما يزالون يحسبوني يهودية، ما عدا مرقس.."
"انا اعرف الخوف، هدسة. ان الخوف عدو قديم. وقد استسلمت له ليلة كان السيد المسيح في البستان وجاء يهوذا الخائن مع الكهنة والحراس الرومانيين".
"ولكنك ذهبت الى المحاكمة".
"اقتربت فقط قربا كافيا كي اسمع.كنت في مامن بين الجمهور. كانت عائلتي معروفة جيدا في اورشليم، وكان ابي يعرف بعض أعضاء مجلس الشيوخ. ولكني اقول لك يا هدسة، اني لم اعرف الخوف الحقيقي قبلما شاهدت يسوع يموت. فما شعرت قط بمثل تلك الوحدة التي شعرت بها انذاك".
ثم امسك يدها "هدسة، لقد اخبرنا السيد المسيح بكل شئ، ومع ذلك كنا لا ندرك حق الادراك من كان ولا ماذا جاء ليفعل.كنا، انا ويعقوب، متحمسين، متكبرين، طموحين، متعصبين. وقد سمانا السيد ابني الرعد. لقد ايقنا ان يسوع هو المسيا المنتظر لكننا توقعنا ان يصير ملكا محاربا مثل داود. كان يستحيل علينا ان ندرك انه هو حمل الله وقد جاء ليحمل خطايا العالم".
وما لبث ان ابتسم باسى وربت يدها."كانت مريم المجدلية – لا يعقوب ولا انا –هي الشخص الذي اختاره يسوع ليكون اول من يراه بعد قيامته".
حينئذتعذر على هدسة ان تبصر من خلال دموعها "كيف يمكنني ان امتلك قوتك؟"
فابتسم يوحنا برقة وقال "انك تمتلكين اي قوة اعطاك الله اياها، وستكون كافية لاجراء قصده المبارك".
+
لماذا لا يتاح ان يموت فتنتهي معاناته؟لقد فكر في الانتحار فوق عشر مرات كي يريح نفسه من الالم. وقد علم ان عائلته كانت تعاني معه. الا انه كلما واجه تنفيذ قرار بقتل نفسه، تبين له انه بالاحرى متشبث بالحياة.فكل لحظةمهما كانت حافلة بالالم، باتت ثمينة عنده. انه يحب زوجته ويحب ابنه وابنته، ربما لغرض اناني، لانه – بدافع الحب – كان ينبغي ان يفعل ذلك ولكنه تبين له انه لا يستطيع. وهوكان يعرف السبب – كان خائفا.
منذ عهد بعيد فقد الايمان بالالهة. فانهم ما كانوا له عونا، ولا كانوا تهديدا.ولكن ما راهدسمس بانتظاره، كان الظلام والغموض وابدية من العدم.
وقد رات فيبي ذلك وكانت خائفة هي ايضا.
وكانت احيانا تمضي وتقعد في واحد من المختليات حيث لا يتاح لاح دان يراها فتبكي حتى تجف دموعها.
لقد صلت الى كل اله تعرفه، وقدمت قرابين بيد مبسوطة، وصامت وتعبدت. وصرت داخل قلبها ملتمسة اجوبة،ومع ذلك كان عليها ان تشاهد كيف يموت ببطء.
..
لقد قال سرتس امس ان الالعاب التي تقام احتفالا بمهرجان ليبراليا قد خططت مباراة تصفية يشترك فيها 12 زوجا من المحاربين والناجي يعطى حريته.
قال: "ربما كان الموت هو الحرية الوحيدة"
فأمسكت هدسة بيده وقالت:"لا"
فخفض اتريتس نظره اليها مدهوشا،وقد اذهله ان تلمسه اساسا، فيما امسكت بيده كما لوكان احدهما طفلا.
ثم قالت ثانية"لا"واذ دارت لتواجهه، امسكت يده باحكام بين يديها كلتيهما ،واضافت : "ليس هو الحرية الوحيدة يا اتريتس”.
"اي حرية اخرى توجد لرجل مثلي؟"
"الحرية التي يعطيها الله".
سحب يدهمن يدها "ما دام الهك قد اخفق في انقاذ اخيك كالب فلن يحميني. افضل اني وضعت ثقتي في ارطاميس".
"ارطاميس ليست سوى حجر جامد".
"انها تحمل صورة – الاله الروح في غابات موطني"،ورفع التعويذة المعلقة حول عنقه.
فتاملت الطلسم بحزن"عنزة تستخدم لجر الخراف للذبح".
واطبق قبضته على التعويذة قائلا بتهكم "اذا ينبغي ان اصير يهوديا؟"
"انا مسيحية"
فزفر نفسه بحدة، محدقا اليها من عل كما لو كانت حمامة طلع لها قرنان فجاة. لقد كان المسيحيون وقودا لساحات الاكروبول. اما السبب الحقيقي وراء ذلك الحقد المستعر ناحيتهم فلم يفهمه قط: اي خطر على روما شكل قوم لا يقدمون على القتال؟. ربما كان هذا الامر في ذاته هو السبب، فالرومان يثمنون الشجاعة. قال:
"افضل ان تبقي هذا طي الكتمان"
قالت هدسة: "لقد ابقيته. ولطالما كتمته في قلبي. انما قد تكون لي هذه اخر فرصة تتاح لي كي اتكلممعك يا اتريتس، وانا اخاف على نفسك. ينبغي ان اقول لك.."
قاطعها قائلا:"ليس لي نفس" ولم يكن على يقين بانه اراد ان يعرف.
فقالت متوسلة: "لك نفس. للجميع نفوس. اصغ الي. رجاءا. اتريتس، ان الله حي. التفت اليه. اصرخ اليه فيجيب. اطلب من يسوع ان يدخل قلبك".
"يسوع؟ومن يسوع هذا؟"
ففتحت فمها كي تتكلم.
وفجاة قال اتريتس بحدة: "اسكتي".
***
كانت هدسة تنتشل الماء من البهو حين جاءت احدى العبدات وقالت:"السيد يستدعيك".
قالت فيبي:"ما استدعيناك لتعزفي لنا. عندنا اسئلة نسالها اياك".
كان دسمس من تكلم، وقد خشن الالم صوته "هل انت مسيحية؟"
خفق قلب هدسة في داخلها كعصفور ضعيف مرفرف. اننعما واحدا تنطق بها قد تعني موتها. فاغلقت حنجرتها.
وقالت فيبي بلطف: "لا داعي للخوف منا يا هدسة. انما تقولينه لنا لن يرج من هذه الغرفة.نعدك بذلك. فنحن لا نريد الا ان نعرف عن الهك هذا الذي تعبدينه"
فأومأت براسها وهي ما تزال مرتاعة "نعم انا مسيحية".
قالت فيبي وقد اذهلها ان دسمس كان على حق بشان هدسة – "وانا كنت احسبك يهودية طوال هذا الوقت".
"كان ابي وامي من سبط بنيامين، سيدتي. ان المسيحيين يعبدون الاله الواحد، ولكن كثيرون من اليهود لم يعرفوا السيد المسيح لما جاء".
"المسيح؟ما كلمة المسيح هذه؟
معنى المسيح "الشخص الممسوح" اي المعين، سيدتي. لقد نزل الله بهيئة انسان وسكن بيننا. "ان اسمه هو يسوع".
فقال مرقس: "كان.." ودخل الغرفة، ولما تكلم توترت هدسة، وراى خديها يتوردان احمرارا، غير انها لم تتحرك. فحدق الى منحنى رقبتها وحوالق شعرها الداكن الناعمة المسلة على قفا عنقها ثم قال بخشونة:"لقد اجريت بعض البحث بشان هذه الملة اليهودية في غضون الاسابيع القليلة الماضية"
فقال مرقس موجها كلامه الى ابويه "ان يسوع هذا الذي يعبده المسيحيون كان ثائرا صلب على صليب في منطقة اليهودية. فايمان هدسةمؤسس على العاطفة. على طلب مستميت لاجوبة عل اسئلة لا جواب عنها".
ثم نظر من عل "ان يسوع ليس الها. لقد اخطا وتحدى السلطات وكان اسمه كفيلا لاثارة العصيان المسلح وما زال".
فقالت امه:"ولكن ماذا لو كان ذلك صحيحا يا مرقس؟ ماذا لو كان الها؟"
"لم يكن – فحسب ما قاله لي اسمس وهو رجل راى يسوع – كان يسوع ساحرا بارعا الى حد انه اجرى عجائب في اليهودية. كان اليهود متعطشين الى منقذ واقتنعوا بسهولة انه مسيحهم الذي طالما انتظروه.وقد توقعوا منه ان يطرد الرومان لكنه لم يفعل انقلب عليه اتباعه. وقد سلمه واحد من الاقربين اليه الى السلطات. فيسوع هذا ارسل الى الوالي وكان يريد طلاقه لكن امته نفسها طالبت بان يصلب. لقد مات ودفن وانتهى الامر.
فقالت هدسة برقة: لا بل قام حيا.
واتسعت حدقتا فيبي: هل عاد الى الحياة؟
لا لم يعديا اماه .هدسة اصغ اليوجثا وادارها بخشونة لتواجهه."كان تلاميذه هم الذين اشاعوا انه قام.كان الامر خدعة.
اغمضت هدسة عينيها وهزت راسها نفيا.
فهزها مرقس "بلى. لقدكان اسمس في اليهودية انذاك. هو الان مسن وهو يقيم بقربنا .. سآخذك اليه ان كنت لا تصدقيني. لد كان احد قادة المئة عند القبر.وهو قال ان الجثمان سرق لدفع الناس للايمان بان القيامة حصلت".
واذ راى دسمس حماس ابنه في زعزعة ايمان العبدة قال "هل راى هو ذلك؟"
لم يلاحظمرقس اي تغير في عيني هدسة فأفلتها ووقف.
"قال دسمس انه لم ير الجثمان يؤخذ من القبر.ولكن ذلك كان التفسير المنطقي الوحيد"
"يؤخذ من تحت انوف الحراس الرومان مباشرة".
فقال مرقس بغضب: "هل تريد ان تصدق قصة هدسة السخيفة؟"
"اريد ان اعرف الحقيقة. كيف يعقل ان يبقى اسمس على قيد الحياة بعد ان يسرق الجسد؟ ان الاعدام هو عقوبة اهمال الحارس لواجبه".
كان مرقس قد سال اسمس نفس السؤال "قال ان بيلاطس قد سئم امتهان الاحزاب اليهودية له. وكانت زوجته قد تألمت باحلام قبل الاتيان بيسوع للمثول امامه، غير ان السنهدريم ومعهم الرعاع اليهود ارغموه على تسليم مسيحهم للصلب .وقد غسل بيلاطس يديه من المسالة كلها.فهو لم يرد اي تورط اضافي مع هؤلاء المتعصبين دينيا، ولم يكن على استعداد للتضحية بجنود اضافيين من اجل فقدان جثة يهودي ميت عديم الاهمية".
"كان ينبغي ان يكون امرا بالغ الاهمية لدى جميع المكلفين بان يتيقنوا ببقاء الجثة في القبر".
قالت هدسة مجددا "ان الرب قام وظهر لمريم المجدلية ولتلاميذه".
فردمرقس "وهؤلاء كذبوا لابقاء قصة هذا المسيح سارية"
فقالت هدسة"ظهر الرب ايضا لاكثر من خمسمائة شخص اخرين دفعة واحدة"
"اماه، لا تورطي نفسك في هذا الامر فهو اكذوبة ".
استدارت هدسة قليلا وقالت بلطف: "هل سببا كان ذلك حتى يكذبوا؟"
فقال مرقس "المال، السلطة، احترام الناس. هذه اسباب تدفع كثيرين للكذب".
"هل تعتقد انني يمكن ان اكذب عليك؟".
عند ذاك لان مرقس وود لو يجثو ويمسك بيديها . لقد ارادها لنفسه ولكن ايمانها بهذا الاله غير الموجود حال بينهما. فقال باغتمام: لا لست اعتقد انه يمكنك ان تكذبي علي. لست اعتقد انك قادرة ان تكذبي على اي انسان. انا اعتقد انك تصدقين كل كلمة من هذه القصة الغريبة لانك تربيت كي تصدقيها.لقد انطبعت في ذهنك بكثرة تكرارها من حين ولدت. غير انها ليست صحيحة".
فهزت رأسها نفيا وقالت بحزن: "اه، مرقس. انت مخطئ تماما. لقد قام يسوع وهو حي".
ثم اطبقت يديها على صدرها واضافت "انه هنا".
فقال مرق مخيبا: "لماذا لا تودين الاصغاء الى الحقائق"
"الى اي حقائق؟ كلمة حارس لم ير شيئا؟ماذا كسب اولئك الذين تبعوا يسوع؟ مالا، سلطة، احترام الناس؟ يعقوب قطع هيرودس اغريباس راسه، واندراوس رجم بالحجارة في سكيثيا، وبرثلماوس سلخ جلده وهو حي ثم قطع راسه في ارمينيا، ومتى مات مصلوبا في الاسكندرية، وفيلبس في هيرابوليس، وبطرس في روما، ويعقوب الصغير قطع راسه بامر من هيرودس انتيباس، وسمعان الغيور نشر شطرين في فارس.ولا احد منهم ارتد. فحتى في مواجهة الموت ظلوا يعلنون انه هو المسيح. لقد قال لي ابي انهم كلهم كانوا خائفين لما صلب يسوع. بعد قيامة يسوع باتوا رجالا مختلفين لا من الخارج بل من الداخل وقد نشروا بشارة الانجيل لانها صحيحة."
سألت فيبي:"وما بشارة الانجيل؟".
"ان الرب جاء لا ليدين العالم بل ليقدم له الخلاص، سيدتي. فانه هو القيامة والحياة، وكل من امن سيحيا حتى لومات".
فقال مرقس على نحو غاية في القسوة: "على جبل الاولمب مع جميع الالهة كما اعتقد".
والت فيبي – محرجة من تهكمه "مرقس"
فنظر مرقس الى ابيه "ان هدسة على حق في شئ واحد ان التكلم بهذا المسيح يجلب الالم والموت فعلا. ان يسوع هذا نادى بان الانسان مسؤل امام الله وحده لا امام القيصر. فان اسهمت في نشر هذه الديانة فستكون نهايتها في ساحة المحاربين.
شحبت هدسة شحوب الموت "لقد قال يسوع، اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر".
"بكلماتك انت فكل ما تفعلينه خدمة لالهك".
انزعجت فيبي من حدة مرقس ابنها فقالت: "مرقس لماذا تهاجمها هكذا؟".
ثم خيم الصت. لق تكلمت هدسة مثل صدى في اودية اذهانهم وكخفقة نور في الظلام "لقد اقام يسوع ابي من الموت".
قالت فيبي:"ماذا قلت؟".
فرفعت صوتها بغير ارتعاش وقالت: "لقد اقام يسوع ابي".
"ولكن كيف؟".
لست اعلم سيدتي".
ومال سمس في جلسته للامام قليلا "ارايت ذلك حاصلا بعينيك؟".
لقدحصل قبل ولدت في بلدتنا بالجليل".
فقال مرقس محاولا ان يكظم غيظه: "هدسة، انت تقولين انه حصل بناءا على كلام الاخرين".
فرفعت عينيها بكل الحب الذي تكنه له: "لن يقنعك شئ يمكن ان اقوله الروح القدس وحده يقدر على اقناعك.العالم كله يشهد لتدبير خلاصه”.
"ما ذلك الانظام الطبيعة فحسب".
"لا يا مرق سان ذلك هو الله متكلما للبشر”.
"ايمانك اعمى".
"اذا نظرت الشمس وحدقت فيها ثم اشحت ستراها واذا حدقت الى الموت سترى الموت. فاين يكمن الرجاء؟".
فترجرجت عيناه واتكأ الى الوراء قليلا "ليس لي رجاء".
والتفت الى والده فرأي الالم المحفور في وجهه. وفجأة غمر مرقس خزي شديد. فربما كان على خطا. وربما كانت حيازة رجاء زائف افضل من عدم الرجاء مطلقا.
"لك ان تنصرفي يا هدسة" قالت فيبي مربتة كتف دسمس بعزاء عقيم.
وللمرة الاولى لم تطع هدسة الامر. اذ جثت بجانب الاريكة وخرقت كل قانون معرف عرفا. وامسكت بيد سيدها بكلتا يديها ونظرت في عينيه مباشرة وتكلمت اليه كما لو كانت ندا له.
"سيدي ان قبول نعمة الله يجعل المرء يحوز الرجاء. ليتك تعترف بخطاياك وتؤمن فيغفر لك الرب. اطلب اليه فيأتي ويقيم في قلبك فتنعم بالسلام. امن فقط".
لمح دسمس في عينيها حبا، ذلك الحب الذي تاق ان يناله من ابنته جوليا فقد تأججت اساريرها البسيطة وعيناها البنيتان بدفء نبع من داخلها .وراى لحظة ذلك الجمال الذي اراد ابنه مرق سان يمتلكه. انها امنت بما لا يصدق. منت بما هو مستحيل – لا بعناد وعجرفة بل ببراءة طفولية ودون ان تفكر في الخطر الذي قد يجلبه ذلك عليها قدمت له رجاءها الخاص عسى ان يقبله.
ربما لم يستطع ان يؤمن بالهها هذا غير المنظور ولكنه امن بها هي.
واذ ابتسم بحزن القى يده الاخرى على خدها "لولا جوليا لأطلقتك حرة"
فضغطت يده برقة وقالت همسا: "انا حرة، وانت ايضا تستطيع ان تكون حرا". ثم نهضت برشاقة وغادرا الغرفة مغلقة الباب وراءها بهدوء.
من رواية (صوت في الريح) فرانسين ريفرز