1 نوفمبر 2011

قصاصات: كتاب "الله و الشر و المصير"



ان موقف الله من الشر الخلقى، أى الخطيئة، كما يتصور بعض الناس، أشبه ما يكون بموقف أحدنا إذا ما لحقته إهانة، فهو متربص لمرتكبى الخطيئة ويصبّ عليهم جام غضبه وينزل بهم أشد الويلات، ويميتهم " تأديبًا"، وإذا ما أصروا على عصيانه " يرسلهم" بعد موتهم إلى جهنم ويعذبهم بالنار بلا رحمة إلى الأبد.

هذا الإله "القاسي"، الذى هو على صورة قسوة قلب الإنسان (الناتجة عن ضعفه وطبيعته التي فسدت منذ المعصية الاولى)، بدلا من أن يكون نقيض الشر، إنما هو كليًا في جهته، فهو الذى يرسل الشر الطبيعى (الكوارث الطبيعية) ويتغاضى عنه، وهو الذى يعاقب على الشر الخلقى (الخطية) بشر أعظم، باسم عدالة هى أشبه ما تكون بالانتقام. وبالتالى، فى هذا المنظور، يكون الشر هو المنتصر الأكبر، ويكون للموت الكلمة الأخيرة فى الوجود. 

إلا أن هذا "الإله" إنما هو على نقيض الإله الذى انكشف لنا فى تعليم يسوع وسيرته، والذى " لا نعرف آخر سواه"، لأن كل تصور لله ما عداه مشوب بالأهواء والخيالات البشرية. وقد عرفنا من خلال الرب يسوع المسيح أن "اللهَ مَحَبَّة" و"وَمَادَامَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَذِهِ الْمَحَبَّةَ اَلْعَظِيمَةَ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً"(1يوحنا 4: 8، 11). أن المحبة هي اسمه الفريد وصفته المميزة. من هنا أن هذا الإله لا يرسل الشرور الطبيعية. بل انه لا يجوز أن يقال أنه "يسمح بها". ان ما يسمح به بالحقيقة هو أن توجد الخليقة وجودا فعلياً لا شكليا، أى أن لا تكون مجرد ظلا له، مما يفترض أن يمدّها بالوجود (وإلا لما كانت) وأن ينسحب منها في نفس الوقت (وإلا لما كانت متمايزة عنه، أى لما كانت فعلاً). هذا ناتج عن كون الله محبة وعن كون الخلق هو فعل محبة، ومن شأن المحبة أن تقيم المحبوب بإزائها وأن ترفض تذويبه فيها وإلغاء فرادته. لكن ارتضاء الله بأن توجد المخلوقات، يعنى السماح لها بأن توجد بما لديها من خصوصية، أى بما تتسم به من محدودية ناتجة عن طبيعتها كمخلوقات صادرة من العدم وبالتالى بعيدة عن كمال الوجود. ولكن الله، لكونه الخير المطلق والمحبة المطلقة، لا يمكنه أن يكون حياديًا حيال الشر الناتج عن محدودية مخلوقاته، كما توحى العبارة القائلة بأنه " يسمح" بهذا الشرّ.
من هذه الزاوية، ومنها فقط، يمكن أن نفهم مأساة الشرّ الخلقى، أى الخطيئة، على حقيقتها. فقصة الخطيئة ليست قصة عصيان وعقاب، إنها قصة حب مرفوض يعذّب المحبوب والمحبّ معًا. فالموت، بمعناه لا البيولوجى بل الكيانىّ، ليس قصاصًا ينزله الله بالإنسان، بل نتيجة محتومة لاغتراب الإنسان، بالانغلاق والرفض، عمّن هو ينبوع حياته، وضياعه، من جراء ذلك، فى صحراء العزلة والعقم والجفاف والعطش.
الله، بهذا المعنى، لا يحكم على الإنسان ولا يدينه، إنما الإنسان يحكم على نفسه بالجدب والتلاشى.
وما أبدية جهنم إلا ترجمة لهذه القدرة الرهيبة التى اعطيت للإنسان، بأن يقول، إذا شاء  "لا" لله إلى الأبد، تلك القدرة التى هى الوجه الآخر، المظلم، لقدرته على أن يستجيب بحرية لنداء الحب الذى يخاطب به الله قلبه، فيسعد بلقائه إلى الأبد.
فلا بدّ للحرية من أن يكون لها هذان الوجهان، والله دخل، بسابق علمه المطلق، فى التعرض لرفض المحبوب له، بما يعنيه هذا الرفض من شقاء، لا للإنسان الرافض وحسب، بل لله أيضًا الذى، بما أنه يحب الإنسان أكثر مما يحبّ الإنسان نفسه، يشقى بالتالى لشقائه أكثر مما هو يشقى به.
لكن الله ليس معاديًا للشر فحسب، إنه مقاوم له أيضًا، هذا ما يشير إليه وجها السرّ الفصحىّ: صليب وقيامة. إن احتجاب الله الظاهرى عن الخليقة (كى يدعها تكون، كى لا يذيبها بذاته) مقرون بحضور خفىّ فى قلبه، حضورا لولاه لما كانت أصلاً ولما استمرت فى الوجود.
========= 
يمكنك تحميل كتاب "الله والشر والمصير" للكاتب كوستي بندلي بالضغط