3 أغسطس 2017

قصاصات من رواية - العمى


كان الرجل الجالس خلف مقود سيارته يردد يائسا :
- "انا اعمى، انا اعمى!" 
حاول الناس مساعدته على الخروج من سيارته، بينما الدموع الطافرة من عينيه اللتين يدعى فقدهما البصر، جعلتهما تظهران اكثر تألقا.
- "تحدث امور كهذه"، قالت سيدة.
- "ازمة وتمر"، قال رجل.
"يحدث ذلك لاسباب عصبية احيانا"، قال رجل اخريبدو انه كان طبيبا.
تغيرت اضواء اشارة المرور، تجمع بعض المارة الفضوليين حول سابقيهم، احتج السائقون الذين في المؤخرة، ولم يعرفوا ماذا يجري، على ما اعتقدوا انه حادث عادي: تحطم مصباح سيارة، انبعاج جانب سيارة..
"اطلبوا الشرطة"، صاحوا، "واخرجوا هذه الخردة من الطريق.
توسل الاعمي: "ارجوكم ليأخذني احدكم الى بيتي".
اقترح احدهم ان يقود سيارته ويوصله الى بيته. اجلسوه في المقعد الامامي. وفي السيارة رفع الرجل الاعمى يديه الى عينيه وقال "يبدو انني غطست في الضباب، او سقطت في بحر من الحليب".
"لكن العمى مختلف عما تقول"، قال الشخص الاخر "يقولون ان العمى اسود".
"حسن ، لكني ارى كل شئ ابيض. الارجح ان ذلك الرجل كان على صواب".
"نعم، قد تكون مسألة اعصاب، فالاعصاب شئ غاية في التعقيد"
"لا احتاج ان تشرح لي عنها، انها كاثة. نعم كارثة"
"قل لي اين تقطن"
اجاب الاعمى متلعثما، وكأن فقان بصره قد اضعف ذاكرته: "
كان بيته قريبا. لكن الارصفة كانت مكتظة، لم يجد مكانا لصف السيارة.
دخل الى شقته وحالما جلس على الاريكة، اغمض عينيه.. وراح يفكر. تمنى ان يكون في حلم، حلم مخادع.. حلم يجب ان يخرج منه عاجلا او اجلا.
"استيقظ.. استيقظ! ما الذي تفعله هناك، نائم؟"، سألته زوجته.
لم تنتظر الرد، وشرعت تفرغ حقائب بها بعض المشروات في المطبخ، ومن حين لاخر تغمغم بغضب تعمدت عدم اخفائه..
اقتربت منه، فتح عينيه.
"استيقظت اخيرا ايها النوّام!"، قالت مبتسمة.
صمت هنيهة ثم قال: "انا اعمى!"
نفذ صبر المرأة "كف عن هذه الالاعيب الصبيانية. هناك امور لا يجب المزاح بها"
"ارجوك لا تخفني. انظر هنا"
احتضنته وبدأت تبكي.. غمغم، "اني ارى كل شئ ابيض، وابتسم ابتسامة حزينة. جلست المرأة قوية، احتضنته بقوة، ثم قبلته بلطف على جبينه، وعلى خده برقة، سترى انها ازمة وتمر، فانت لم تكن مريضا، لا احد يعمى هكذا بين لحظة واخرى.
امسكت بالتليفون، سألت ان كانت هذه عيادة جراحية، وان كان الطبيب موجودا، وان كان بوسعها التحدث اليه. ان زوجي قد اصيب بعمى مفاجئ.
استوقفا تاكسيا.. في الطريق كانت المرأة تعصر يد زوجها في يدها بحنان. بينما احنى رأسه بحيث لا يستطيع سائق التاكسي ان يرى عينيه في المرآة.
اتصل الطبيب بطبيب اخر صديقا له،قال:
"اني واجهت اليوم حالة هي الاغرب.. بعد الغداء سأبحث في الكتب، سأنظر في بعض المراجع لعلني اجد مفتاحا ما. نعم اني ملم بموضوع العمى، قد يكون عمى نفسي. لكن عندئذ ستكون هي الحالة الاولى من نوعها. وكما نعلم فان العمى النفسي هو العجز عن تمييز الاشيلء المألوفة، لانه خطر لي انها قد تكون ايضا حالة عمى جزئي.
انهى الاتصال وجلس في كرسيه ساكنا لبعض الوقت. ثم نهض، خلع مريوله الابيض ببطء وبحركات متعبة. دخل غرفة الحمام ولكنه لم يسأل نفسه، هناك الاف الاسباب لانغلاق الدماغ.
عاد الى البيت، اخذ بعض الكتب من مكتبته.. راح يقرأ.. الى ان شعر بالخوف فجأة، كأنه سيعمى في غمضة عين.. وقد كان.

ليست هناك تعليقات: