24 مايو 2019

من اعلام اﻻدب: لويس عوض


عن كتاب زمن الرواية
للدكتور جابر عصفور- اوراق العمر
هذا هو المعنى الاساسي الذي تضمنته رواية "الايام" لطه حسين، حيث رحلة المفتي الذي واجه عجزه وتحدى تخلف مجتمعه، وانتصر على عوامل الضعف داخله، والذي عاد الى واحة الذاكرة، في احرج لحظات حياته اي عام 1926 في ذروة ازمة كتابه "في الشعر الجاهلي" فكانت هذه العودة اعادة بناء لماضي الذات، واجتلاءا خلاقا لعناصر القوة التي حققت معجزة الفتي الضرير الفقير في الماضيهذا هو المعنى نفسه ما تنطوي عليه سيرة "لويس عوض"، تلميذ طه حسين وحامل رسالته التنويرية الى اقصى مداها، وذلك في الجزء الاول الذي صدر منها بعنوان رئيسي هو "اوراق العمر" وعنوان فرعي هو "سنوات التكوين".
صحيح ان اوراق العمر للويس عوض لا تبدا من وعي درامي متواتر ، يواجه ازمة مباشرة، مثل تلك التي واجهها طه حسين، او اثار المؤسسات التقليدية واستعداها على نحو ما فعل كتاب "في الشعر الجاهلي"، الا انه في "اوراق العمر" ما يصل بينها وبين "الايام" التي عاناها طه حسين.
واذا كان طه حسين قد طرد من الجامعة عام 1932 وكان طرده مفتتح تدخل السلطة في البطش باستقلال الجامعة، فان لويس عوض كان على راس الموجة الثانية من صور هذا التدخل، حين طرد من الجامعة مع اكثر من خمسين استاذا ومدرسا بقرار من مجلس قيادة الثورة سنة 1954م.
انه الحاضر حين يقسو في الملامح والقسمات، فيجعل التلميذ – الذي اصبح شيخا – يردد في "اوراق العمر" عبارات تذكرنا بعبارات استاذه، حين يتحدث عن اعدائه الاقوياء، ولكن الشعور الممض بالحزن الذي تنطق به "اوراق العمر" لافت للانتياه فاقع الدلالة، لا يوازيه الا نبرة الاصرار على تحدي الواقع المتخلف.
الاحساس الايجابي يواجه سلبية نقيضه وينفيه بالاجابة التي تؤكد قيمة الهدف من رحلة (الكفاح) .. تصل الى ذروتها الختامية في الصفحة قبل الاخيرة من "اوراق العمر" حين نقرا الاسطر التالية:
"وانا الان على بعد 50 عاما من الاحداث التي استرجعها في تامل حزين، ورغم خمسين كاسا من العلقم جرعتها حتى الثمالة، لست نادما على اختيارات حياتي، مع اني اقترب من القبر ولا املك شيئا من متاع الدنيا غير لقمتي وسترتي ووفاء الشباب من قرائي ولو عدنا الى الوراء لبدات كل شئ من جديد، حتى حماقات حياتي"(ص625- 626).
ونحن حين نتحدث عن لويس عوض على وجه الخصوص، فنحن نتحدث عن مثقف من نوع متفرد، اثمر في الدراسات الادبية ما يربو على 20 كتابا.. ولقد انتج لويس عوض في الفكر السياسي والاجتماعي ما يزيد على 10 كتب اشكالية.. واضف الى هذه القائمة ما اثمره لويس عوض في الترجمة، حيث قدم ما لا يقل عن 8 اعمال . وابدع في المسرح والشعر والرواية والسيرة الذاتية ، ابتداءا من "بلوتولاند" التي كانت ارهاصا بحداثة القصيدة العربية وانتهاءا باوراق العمر.
واذا اضفنا الى هذه الكتابات الادوار التي قام بها لويس عوض الاستاذ الجامعي في تاصيل معنى الجامعية والمنهجية لدى تلاميذه، والمفكر الذي لم يتردد في اقتحام حقول الغام الواقع تاكيدا للاستنارة ومعنى حرية الفكر، والناقد الادبي الذي لم يكف عن الدعوة الملتهبة الى الجديد وتشجيعه ومتابعته عبر الاجيال المتلاحقة من الثلاثينات الى السبعينات، اقول اذا اضفنا الى كتابات لويس عوض دوره الثقافي ادركنا اننا ازاء اخر الموسوعيين من التنويريين الذين يتمسكون بقيم العقل والعلم والتطور والحرية والعدل والديمقراطية تمسكهم بنسمات الحياة نفسها، بل ازاء اقصى ما وصل اليه التنوير العربي من افاق.
هذا المثقف المتفرد الذي صاره بانجازاته واثاره عنصرا اساسيا ومكونا فاعلا في استنارتنا المعاصرة وفكرنا الحداثي وطموحنا الاجتماعي السياسي، وتذوقنا الادبي. هذا المثقف بدلا من ان يشعر بالفخر والزهز ويكلل باكاليل الغار بما انجز وبما يمثله من قيمة، يسترجع حياته في تامل حزين، تتحول معه السنوات الخمسين الى خمسين كأسا من العلقم، نتجرعها معه ونتساءل عن سر التعاسة التي لا تفارق المفكر ..
هذا التساؤل تردنا اجابته الى طبيعة عصر لويس عوض.. لقد طرد طه حسين من الجامعة في اوائل اللاثينات غير انه عاد اليها محمولا على اكتاف طلابه بعد 3 سنوات او اقل ، اما لويس عوض فقد طرد من الجامعة في الخمسينييات ولم يعد اليها الى يوم وفاته.
اما جيل لويس عوض فقد عاش عصرا مختلفا واكتوى بالثمار التي خلفتها هزيمة 1967، وما صاحبها من ظهور اسلام النفط الى اتهام ديني او غمز في المعتقدات، وذلك في تصاعد .. وحتى عندما يحصل هذا المفكر التنويري العظيم على جائزة الدولة التقديرية (وغيرها من الاوسمة والجوائز) بعد ان تجاوز ال75، وبعد ان حصل عليها من هم اقل شانا من تلامذته، تتعكر الفرحة المتاخرة بنعيب الطائفية الغليظة والتعصب الجهول.
هذه الدوال التي تشير الى متغيرات التاريخ .. واول ما تتجلى لوازم ذلك لغة.. حيث تختفى "الانا" الفردية الطاغية .. وتحل محلها "انا" اخرى مثقلة بوعيها التاريخي. ومن خيوط التاريخ تتشكل خلفية المشهد الذي تتحرك فوق مهاده هذه "الانا" في علاقات اجتماعية تبرز ابعادها الطبقية ..
فالتركيز على الخارج اكثر من التركيز على الداخل في حالات كثيرة. والانا تبدو كأنها مغرمة بالفرار من ذاتها اكثر من الحديث المباشر عن نفسها، يجعل من "اوراق العمر" تشكيلا متميزا على المستوى الادبي للسيرة الذاتية. اعني تشكيلا ينطبق عليه ما قاله "اليوت" من ان الشعر (وايضا الكتابة عموما) فرار من الشخصية وليس تعبيرا عنها. وايضا اوراق العمر من هذا النوع من الكتابة. انها تتكون من 19 فصلا: ثمانية منها عن الاحداث السياسية والشخصيات والنماذج النمطية الدالة على الواقع السياسي الاجتماعي، ابتداءا من ريا وسكينة وادهم الشرقاوي مرورا بالانقلابات الثلاثة وانتهاءا بمولد الفاشية المصرية. و3 فصول عن العائلة تشير الى ما قبل الذكريات وبروفايلات الاقرباء. و 4 فصول عن الاساتذة والزملاء حيث العمالقة الثلاثة : طه حسين والعقاد وسلامة موسى.
ومن المؤكد ان لويس عوض كان يعرف ان العرب ليسوا كلهم اعرابا ، وان فرعونيته لا تتناقض مع عروبته بل تتكامل معها، وان عروبته مكون اساسي من ثقافته واسهاماته، ومن المؤكد ايضا ان كتاباته وانجازاته اضافت الى العروبة والعربية ما لم يضفه الكثيرون من يتشدقون بالعروبة وينافحون عن العربية. ولكن لابد للقشرة العقلانية ان يتشقق سطحها الصارم فتخرج من بين الشقوق عبارات الاسى والمرارة.
واتصور ان الكلمات السابقة بجعلني اعيد النظر في تبرير عقلانية الكتابة "اوراق العمر" وانتهى الى تصور هذه العقلانية – التي تبدو كما لو كانت حريصة على ان تستبدل الهارج بالداخل – على انها الية دفاعية ، الية تلجا اليها الذات في "اوراق العمر" كي تفر من الانفعالات الفردية التي اذا ترك لها العنان انفجرت دون ضوابط او قيود. وكي لا يدفعها اسى توحدها الى ان تبوح بكل شئ، فالعقلانية تتضمن رقابتها الخاصة ونواهيها.
ومن المؤكد ان هذه العقلانية لم تفلح دائما في تدبير سياسة ضبط التدفق الذاتي، .. ولذلك يزدوج الخطاب التاريخي مع الخطاب الذاتي. يحاول الاول الهيمنة مما يجعل السيرة الذاتية اقرب الى السيرة التاريخية في مواضع كثيرة ..
.. الخطاب الثاني (السيرة الذاتية) هو الذي ينسب اوراق العمر الى الدائرة نفسها التي تنتسب اليها "الايام" بل تجعلها اجرأ من "الايام" في دائرتين: دائرة الحديث عن الاسرة، ودائرة الحديث عن الطائفية.. والواقع ان ما ذكره لويس عوض عن اسرته يضع "اوراق العمر" في مرتبة دالة من حيث شجاعة الاعتراف او صراحة التعبير.
.. واستغلال الجمل القصيرة التي تشبه جبل الثلج الذي نرى منه الاقل بالقياس لما يخفيه، حيث يدلنا سكحه على ما تحته.. بلاغتها الايجاز، والوصول الى الغرض باقصر سبيل.
ولكن اذا كانت "الانا" تفر من التعبير المباشر عن نفسها في "الايام" بواسطة اللجوؤء الى ضمير الغائب.. فان اوراق العمر"

تلجا الى تقنية سردية مغايرة ، غير انها موازية/ وذلك بتعويلها على البروفايلات، وتفحص نماذج الشخصيات التاريخية المعاصرة.. التي تنطق من وراء اقنعة التاريخ ومراياه.

واتصور ان اللجوء الى الاقنعة والمرايا يرتبط في حالة لويس عوض بالوضع الطائفي الذي يدخلنا في اطار الدائرة الثانية..
واتصور ان العلمانية الصلبة التي انطوى عليها منذ البداية، هي التي صانت هذا الرائد الجليل من الانزلاق الى خطاب مضاد يقع في شرك الخطاب التقيض.. متوحدا مع قلمه الذي خط برومثيوس التي ترجمها قديما بكلماته التي تقول:
"اني ارى الحكماء والاكرمين واهل الرحمة والعادلين مشردين في رحاب الارض، تتبعهم الوشاية الكاذبة كما تتبع الفهود المعصوبة الظبي الطريد".

ليست هناك تعليقات: