قصيدة الاله الانسان
تأليف: ماريا فالتورتا
سنة ١٩٤٦
ترجمه إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح
الجزء السادس/ القسم الثاني، فصل
134- (يهوذا الاسخريوطيّ مع العذراء المباركة في الناصرة)
1946
كان الفجر قد بزغ، والسماء الشرقيّة قد بدأت بالاحمرار، عندما كان يهوذا الإسخريوطيّ يقرع باب منزل الناصرة الصغير.
على الطريق ليس هناك سوى الفلّاحين، أو بالأحرى: مالكي أراضٍ صغيرة مِن الناصرة، يمضون نحو كرومهم أو بساتين زيتونهم مع أدوات عملهم، وهم مندهشون كثيراً لرؤية الرجل يقرع باب منزل مريم باكراً جدّاً. ويتهامسون فيما بينهم.
«إنّه تلميذ» يقول أحدهم مُجيباً على ملاحظة آخر. «إنّه بالتأكيد يبحث عن يسوع بن يوسف.»
«لن يستفيد في شيء. فقد رحل مساء أمس. لقد رأيتُهُ بنفسي. سوف أقول له ذلك...» يقول رجل آخر.
«دعكَ مِن ذلك! إنّه يهوذا الإسخريوطيّ. أنا لا أحبّه. قد نكون مذنبين بارتكابنا الكثير مِن الأفعال الخاطئة تجاه يسوع، وإنّنا على خطأ بذلك. إنّما هو، ذاك الرجل هناك، قد سَبَّبَ الكثير مِن الأذى بيننا العام الماضي... ربّما كنّا اهتدينا. لكنّه...»
«ماذا؟ كيف تعرف ذلك؟»
«لقد كنتُ موجوداً في إحدى الأمسيات في منزل رئيس المعبد. وبحماقة، صَدَّقتُ كلّ شيء في الحال... الآن... كفى! أعتقد بأنّني خطئتُ و...»
«ربّما هو أيضاً قد أدرك بأنّه قد خطئ و...»
إنّهما يبتعدان ولا أعود أسمع شيئاً آخر.
يهوذا يقرع مرّة ثانية على الباب الصغير، الذي كان قد التصق به، ووجهه إلى الخشب، كما لو أنّه يرغب بأن يتحاشى أن يُرى وأن يتمّ التعرّف عليه. لكنّ الباب الصغير يبقى مغلقاً. يهوذا يقوم بحركة تنمّ عن خيبة أمل، إنّه يمضي عبر درب يحاذي البستان ويذهب إلى خلف المنزل. إنّه يُلقي نظرة مِن فوق سياج البستان الهادئ. وحدها الحَمامات تُحيّيه.
يهوذا يفكّر بما يفعل. إنّه يتحدّث مع نفسه: «قد تكون رحلت هي أيضاً؟ إنّما... لكنتُ رأيتُها. فإذن! لا. لقد سمعتُ صوتها مساء أمس... ربّما ذهبت لتنام عند سلفتها... أُفّ! إنّه لأمر مزعج كالنحلة على الوجه، لأنّها سوف تأتي معها، وأنا أريد أن أتحدّث إليها وحدها، مِن دون تلك العجوز كشاهدة. إنّها ثرثارة وقد تُبدي ملاحظات. وأنا لا أريد أيّة ملاحظات. وهي ماكرة مثل كلّ عجائز الشعب. قد لا تتقبّل أعذاري، وقد تَلفت نظر سلفتها الحمامة الحمقاء لذلك... أنا متأكّد مِن أنّني أستطيع خداعها... كيفما أشاء. إنّها بطيئة الفهم كنعجة... وأنا يجب أن أتدارك ما حصل في طبريّا... لأنّها إذا ما تكلَّمَت... أتساءل فيما إذا تكلّمت عن الأمر أم إنّها قد التزمت الصمت؟ ففي حال تكلَّمَت، فسيكون تدارك الأمر أكثر صعوبة... لكنّها لن تكون قد تكلَّمَت... إنّها تخلط الفضيلة بالغباء. وكما الأُمّ، كذلك الابن... فالآخرون منهمكون فيما هما يغطّان سريعاً بالنوم. في كلّ الأحوال هم على حقّ. لماذا تركهم جانباً إذا كان يبدو أنّهم يريدون... لكن ما الذي يريدونه في النهاية؟…
إنّ أفكاري مشوّشة... يجب أن أتوقّف عن الشرب و... بالتأكيد! لكنّ المال يغري، وأنا مثل مهر قد أُبقِيَ محبوساً لوقت طويل. عامان، بل أقول! حتّى أكثر! حرمان مِن كلّ الأنواع لعامين... إنّما بذات الوقت... ما الذي كان إلقيا قد قاله قبل البارحة؟ إيه! إنّه ليس بالمعلّم السيّئ! حتماً! كلّ شيء مسموح به شريطة أن ننجح في تنصيب يسوع على العرش. إنّما إن لم يكن يريد ذلك؟ إنّما حتماً يجب أن يُدرِك بأنّنا إن لم ننتصر، فسينتهي بنا الأمر كما انتهى بأتباع ثيوداس أو كأتباع يهوذا الجليليّ…
ربّما يجب عليَّ أن أنفصل عنهم لأنّ... لأنّني! لا أعرف فيما إذا كان ما يريدوه صحيحاً. إنّني لا أثق بهم كثيراً... لقد تغيّروا بشكل كبير مؤخّراً... لا أريد أن... يا للفظاعة! أن أكون أنا الوسيلة لتدمير يسوع؟ لا. سوف أنفصل عنهم. إنّما مِن المحزن أنّه وبعد الحلم بمملكة، العودة إلى ماذا؟ إلى لا شيء... إنّما اللاشيء هو أفضل مِن... إنّه دوماً يقول: "ذاك الذي سيرتكب الخطيئة الأعظم." هيه مهلاً؟! لن أكون أنا، إيه! أنا؟ أنا؟ قريباً سوف أُغرِق نفسي في البحيرة... سوف أرحل. مِن الأفضل لي أن أرحل. سوف أذهب إلى عند أُمّي، سوف أسألها أن تعطيني بعض المال، لأنّني بالتأكيد لا أستطيع أن أطلب مِن أعضاء المجلس أن يعطوني المال كي أرحل. إنّهم يساعدونني لأنّهم يأملون بأنّني سوف أساعدهم مِن أجل التغلّب على حالة عدم اليقين. وحالما يتمّ الاعتراف بيسوع كمَلِك، فسوف نَثبُت. الجموع سوف تكون إلى جانبنا... هيرودس... مَن سيقلق بشأنه؟ لا الرومان ولا الشعب. الجميع يكرهونه! و... و…
لكنّ يسوع قادر تماماً على التخلّي عن العرش حالما يُعلَن مَلِكاً. آه! إنّما! عندما يؤكّد لي إليعازر حنانيا بأنّ والده مستعدّ لتتويجه ملكاً!... فبعدها، هو لن يستطيع أن يتخلّص مِن صفته المقدّسة. في النهاية... أنا أفعل ما فعله الوكيل الخائن في مَثَله... ألجأ إلى أصدقائي لصالحي، هذا صحيح، إنّما أيضاً لصالحه. إذن فأنا أجعل مِن الوسائل غير العادلة بمثابة... ومع ذلك، لا! ينبغي لي أن أُعاود المحاولة لإقناعه. أنا لستُ مقتنعاً بأنّني أفعل الصواب باللجوء إلى هذه الذريعة... و... آه! فقط لو كنتُ أستطيع إقناعه! لأنّ ذلك سوف يكون حسناً جدّاً! نعم... جدّاً! ذلك هو الحلّ! الأفضل: أن أقول للمعلّم كلّ شيء بصراحة. أن أتوسّل إليه... شريطة ألّا تكون مريم قد أخبرته عن طبريّا…
ما الذي كان ينبغي لي أن أقوله لمريم؟... آه! نعم! رفض السيّدات الرومانيّات. لتكن ملعونة تلك المرأة! فلو لم أذهب إليها، لما كنتُ قد التقيتُ مريم في ذاك المساء! إنّما مَن كان ليتخيّل بأنّ مريم كانت في طبريّا؟ عدا عن أنّني لم أخرج لا يوم ما قبل السبت، ولا في السبت، ولا في اليوم الذي تلاه، حيث لم أكن أرغب في رؤية أحد مِن الرُّسُل... يا لي مِن غبيّ! لكنتُ ذهبت إلى إيبّو، أو إلى جرجسا كي أجد امرأة! لا! إنّما ذهبتُ إلى هناك بالضبط! إلى طبريّا، حيث يتوجّب على أهل كفرناحوم المرور كي يصلوا إلى هنا... وكلّ ذلك بسبب السيّدات الرومانيّات... لقد كنتُ آمُل... لا، هذا ما يجب أن أتحجّج به، لكنّها ليست الحقيقة. لا جدوى مِن قول ذلك لنفسي، حيث إنّني أعرف السبب الحقيقيّ لذهابي: لمقابلة بعض المتنفّذين مِن إسرائيل، وكي أستمتع، باعتبار أنّ معي الكثير مِن المال... لكن... كم يتبدّد المال بسرعة. قريباً لن يبقى لي منه شيئاً... هه! هه! سأخترع بعض القصص لإلقيا ورفاقه، وسوف يعطونني منه مجّدداً...»
«يهوذا! هل جننتَ؟ لقد كنتُ أراقبكَ منذ بعض الوقت مِن أعلى شجرة الزيتون هذه. إنّكَ تُشَوّر، تتكلّم مع نفسكَ... هل آذتكَ شمس تموز (يوليو)؟» يصيح حلفى بن سارة مُظهِراً نفسه مِن بين تشعّبات أغصان شجرة زيتون ضخمة، على بُعد حوالي الثلاثين متراً عن المكان الذي يقف فيه يهوذا.
يهوذا ينتفض ، يتلفّت حوله، يراه ويُتمتم: «ليُفنِك الموت! قرية الجواسيس الملعونة!» لكنّه يصيح مبتسماً ابتسامة لطيفة: «لا. لكنّني قَلِقتُ لأنّ مريم لا تفتح... أربّما هي على غير ما يرام؟ لقد قرعتُ الباب مرّات عديدة!...»
«مريم؟ لا جدوى مِن قرعكَ الباب! إنّها في منزل عجوز مسكينة تحتضر. لقد استدعوها عند الهزيع الثالث...»
«إنّما يجب أن أتكلّم معها.»
«انتظر. سأنزل وأذهب لإخبارها. إنّما هل أنتَ بحاجة إليها حقّاً؟»
«إيه! يمكنني أن أؤكّد ذلك! إنّني هنا منذ الفجر.»
يَنزل حلفى مِن على الشجرة على عَجَل ويمضي مسرعاً.
«هو أيضاً رآني! وهو بالتأكيد سوف يعود مع تلك المرأة الأخرى! لا شيء يسير بشكل حسن؟» ويُطلِق سلسلة مِن الشتائم بحقّ الناصرة، بحقّ الناصريّين، بحقّ مريم التي لحلفى، وحتّى بحقّ رأفة العذراء المباركة تجاه الـمُحتَضِرة، وحتّى بحقّ الـمُحتَضِرة ذاتها…
هو لم يكن قد انتهى عندما يُفتَح الباب الذي يؤدّي مِن غرفة الطعام إلى البستان، وتَظهَر مريم وهي تبدو شاحبةً جدّاً وحزينة جدّاً.
«يهوذا!»، «مريم!» يقولان في الوقت نفسه.
«سوف أفتح لكَ الباب حالاً. حلفى قال لي فقط: "اذهبي إلى المنزل. هناك شخص ما يريدكِ" فهرعتُ إلى هنا، وأيضاً لأنّ العجوز لم تعد بحاجة إليَّ. فقد انتهى وجعها الذي سَبّبه ابن سيّئ...»
وفيما مريم تتكلّم، يركض يهوذا على طول الدرب عائداً إلى أمام المنزل... مريم تفتح الباب.
«السلام لكَ يا يهوذا الإسخريوطيّ. تفضّل.»
«السلام لكِ يا مريم.»
يهوذا متردّد بعض الشيء. مريم وديعة إنّما جادّة.
«لقد قرعتُ كثيراً عند الفجر.»
«مساء أمس، ابن حَطَّمَ قلب أُمّه... وقد أتوا بحثاً عن يسوع. لكنّ يسوع ليس هنا. وأقول ذلك لكَ أيضاً: يسوع ليس هنا. لقد جئتَ متأخّراً.»
«أنا أعرف بأنّه ليس هنا.»
«كيف تعرف؟ لقد وصلتَ للتوّ...»
«أُمّاه، سوف أكون صريحاً معكِ أنتِ الطيّبة: أنا هنا منذ الأمس...»
«ولماذا لم تأتِ؟ لقد أتى رفاقكَ إلى هنا كلّ سبت، ما عدا واحد...»
«إيه! أنا أعرف! لقد ذهبتُ إلى كفرناحوم، ولكنّني لم أجدهم.»
«لا تكذب يا يهوذا. أنتَ لم تذهب أبداً إلى كفرناحوم. لقد بقي برتلماوس هناك طوال الوقت ولم يركَ أبداً. وبرتلماوس جاء إلى هنا فقط البارحة. لكنّكَ لم تكن هنا البارحة... إذن... لماذا تكذب يا يهوذا؟ ألا تعلم أنّ الكذب هو الخطوة الأولى نحو السرقة والقتل؟... إنّ إستير المسكينة قد ماتت، لقد قَتَلَها الألم بسبب سلوك ابنها. وصموئيل، ابنها، قد أَصبَحَ عار النّاصرة بكذبات صغيرة، والتي أَصبَحَت أكبر فأكبر... ومِن خلالها فقد عَبَرَ إلى كلّ الباقي. فهل ترغب، وأنتَ رسول الربّ، أن تحذو حذوه؟ أتريد أن تموت أُمّكَ محطّمة القلب؟»
إنّها تعاتبه برويّة، بصوت خافت. لكن لكلماتها وقع ثقيل عليه. يهوذا لا يعرف بماذا يجيب. إنّه يجلس فجأة، رأسه بين يديه.
مريم تراقبه. ثمّ تقول: «حسناً؟ لماذا أردتَ رؤيتي؟ بينما كنتُ أساعد إستير، فقد صلّيتُ لأُمّكَ... ولكَ... لأنّني أشعر بالأسف على كليكما، ولسببين مختلفين.»
«إذا كنتِ تشفقين عليَّ، فاغفري لي إذن.»
«لم أحمل أبداً مشاعر سيّئة.»
«ماذا؟... ولا حتّى بسبب... ذاك الصباح في طبريّا؟... أتعلمين؟ لقد كنتُ على تلك الحال لأنّ السيّدات الرومانيّات كنّ قد أسأن إليَّ في الأمسية السابقة بمعاملتي كمجنون... وكخائن للمعلّم. نعم، أنا أعترف بذلك. لقد أخطأتُ التصرف بالتحدّث إلى كلوديا. لقد كنتُ مخطئاً حيالها. لكنّني أفعل ذلك لهدف جيّد. لقد أحزنتُ المعلّم. هو لم يقل لي ذلك، ولكنّني أُدرك بأنّه يَعلَم أنّني قد تكلّمت. مِن المؤكّد أنّ حنّة هي مَن أخبره. حنّة لم تحبّني أبداً، والسيّدات الرومانيّات أحزنّني... وكي أنسى، فقد شربتُ...»
يرتسم تعبير شفقة تهكّميّة إنّما غير مقصودة على وجه مريم، وتقول: «إذن فعلى يسوع أن يثمل كلّ ليلة، بالنَّظَر إلى الحزن الذي مِن المفترض أنّه يذوقه كلّ يوم...»
«هل أخبرتِه؟»
«أنا لا أزيد مرارة كأس ابني بأخبار ارتدادات جديدة، سقطات، خطايا، مكائد... لطالما كنتُ وسأبقى صامتة.»
يهوذا يجثو على ركبتيه مُحاوِلاً تقبيل يد مريم، لكنّها تتراجع، دونما فظاظة، إنّما عاقدة العزم على ألّا تُلمَس أو تُقبَّل.
«شكراً يا أُمّاه! أنتِ خلاصي. هذا ما جعلني آتي إلى هنا... وكي تُسهّلي عليَّ التقرّب مِن المعلّم دون أن أتعرّض للتأنيب أو الإحراج.»
«كي تتجنّب ذلك، كلّ ما كان عليكَ فِعله هو أن تذهب إلى كفرناحوم، ومِن ثمّ أن تأتي إلى هنا مع الآخرين. لقد كان الأمر في غاية البساطة.»
«هذا صحيح... لكنّ الآخرين ليسوا طيّبين، وقد تجسّسوا عليَّ كي يوبّخوني ويتّهموني.»
«لا تُسئ إلى إخوتكَ يا يهوذا. كُفَّ عن ارتكاب الخطايا! لقد كنتَ تتجسّس هنا، في الناصرة، موطن المسيح، أنتَ...»
يهوذا يقاطعها: «متى؟ العام الماضي؟ لقد حَرَّفوا كلامي! إنّما صدّقيني، أنا...»
«أنا لا أعرف ماذا فعلتَ أو قلتَ العام الماضي. أنا أتحدّث عن الأمس. إنّكَ هنا منذ الأمس. وأنتَ تعلم أنّ يسوع قد رَحَل. لذا فقد كنتَ تتحرّى. إنّما لم تكن تتحرّى في المنازل الصديقة: منزل آسِر، منزل إسماعيل، منزل حلفى، أو في منزل شقيق يوضاس ويعقوب، أو منزل مريم التي لحلفى، أو في أيّ مِن منازل القلّة هنا الذين يحبّون يسوع. لأنّكَ لو كنتَ قد فعلتَ ذلك، لكانوا أتوا وأخبروني. إنّ منزل إستير قد امتلأ بالنساء عند الفجر، عندما ماتت، إنّما ولا واحدة منهنّ قد سَمِعَت عنكَ. إنّهنّ الأفضل مِن بين نساء الناصرة، اللواتي يحببنني ويحببن يسوع، وهنّ يجهدن لممارسة عقيدته بالرغم مِن عداء أزواجهنّ، آبائهنّ وأبنائهنّ. إذن فقد تحرّيتَ لدى مَن هُم أعداء يسوعي. ماذا تسمّي ذلك؟ أنا لا أريد أن أعرف.
سوف أقول لكَ فقط هذا. سيوف كثيرة سوف تُغرَس في قلبي، وهو سوف يُطعَن مراراً وتكراراً، بلا رحمة، على يد الرجال الذين يُحزِنون يسوعي ويكرهونه. وأحد تلك السيوف سيكون سيفكَ، ولن يكون بالإمكان سحبه أبداً. لأنّ ذكراكَ يا يهوذا -أنتَ الذي لا تريد أن تخلص، والذي تُهلِك نفسكَ، والذي تخيفني، ليس لأنّني خائفة على نفسي، بل لأنّني خائفة على نفسكَ- لن ينساها قلبي. سيف طَعَنَ سمعان به نفسي، حينما كنتُ أضمّ، طفلي، حَمَلي القدّوس الصغير، إلى صدري... وأنتَ... أنتَ السيف الآخر. إنّ نصل سيفك يُعذِّب قلبي منذ الآن. ولكنّكَ لم تكتفِ بعد مِن التسبّب بهكذا ألم لامرأة مسكينة... وتنتظر كي تغرس كلّ سيفكَ، كالجلّاد، تماماً في القلب الذي لم يمنحكَ سوى المحبّة... إنّما مِن الغباء أن أتوقَّع شَفَقَة منكَ، أنتَ الذي لا تملك منها شيئاً لأُمّكَ ذاتها!... بل على العكس، وأقولها لكَ الآن! سوف تطعننا أنا وهي بضربة واحدة، أيّها الابن الشقيّ، الذي لا تَقدر صلوات أُمَّين على تخليصه!...»
مريم تبكي وهي تتكلّم، لكنّ دموعها لا تسقط على رأس يهوذا الأسمر، لأنّه بقي حيث جَثا على ركبتيه، بعيداً عن مريم... إنّ الأرضيّة القرميديّة هي التي تتشرّب الدموع المقدّسة. والمشهد يذكّرني بحجلاي، التي، وعلى العكس، كانت دموع مريم تتساقط عليها، لأنّها كانت تلتصق بمريم في توق صادق للفداء.
«ألا تستطيع أن تجد ولا حتّى كلمة يا يهوذا؟ ألا تستطيع أن تجد في نفسكَ القوّة لهدف صالح واحد؟ آه! يهوذا! يهوذا! قُل لي: هل أنتَ راضٍ عن أسلوب حياتكَ؟ تفحّص نفسكَ يا يهوذا. في البداية، كُن متواضعاً وصادقاً مع نفسكَ، ومِن ثمّ مع الله، بحيث تستطيع أن تمضي إليه، بعد أن تزيح الأثقال الحجريّة عن قلبكَ، وتقول له: "ها أنا ذا. لأجلكَ تخلّصتُ مِن هذه الحجارة."»
«ليست لديَّ... الشجاعة للاعتراف أمام يسوع.»
«ليس لديكَ التواضع لفِعل ذلك.»
«هذا صحيح. ساعِديني...»
«اذهب إلى كفرناحوم وانتظره، بتواضع.»
«إنّما بإمكانكِ...»
«لا أستطيع أن أقول لكَ سوى أن تفعل ما يفعله ابني دوماً: أن تتحلّى بالرحمة. أنا لستُ أُعلّم يسوع، إنّما يسوع هو الذي يعلّمني، أنا تلميذته.»
«أنتِ أُمّه.»
«هذا فيما يخصّ قلبي. لكن، بموجب الحقّ، فهو معلّمي. تماماً كما هو بالنسبة للتلميذات الأخريات.»
«أنتِ كاملة.»
«هو الكلّي الكمال.»
يهوذا يصمت ويفكّر. ثمّ يَسأَل: «إلى أين ذهب المعلّم؟»
«إلى بيت لحم الجليل.»
«وبعد ذلك؟»
«لا أعرف.»
«هل سيعود إلى هنا؟»
«نعم.»
«متى؟»
«لا أعرف.»
«لا تريدين أن تقولي لي!»
«لا أستطيع أن أقول لكَ ما لا أعرفه. لقد تبعتَه لعامين. هل يمكنكَ القول بأنّ خطّ سيره كان دائماً مؤكّداً؟ كم مرّة أرغَمَته إرادة البشر على تغييره؟»
«صحيح. سوف أرحل... إلى كفرناحوم.»
«الشمس حارّة جدّاً للسفر. ابقَ هنا. إنّكَ مُسافر مثلكَ مثل كلّ الآخرين. وهو قال بأنّ على التلميذات العناية بهم.»
«إنّ وجودي مزعج بالنسبة لكِ...»
«في الحقيقة إنّ عدم رغبتكَ بالشفاء هو الأمر الأكثر إزعاجاً بالنسبة لي! هذا فقط... اخلع معطفكَ... أين نمت؟»
«لم أنم. انتظرتُ حتّى الفجر لأنّني أردتُ أن أراكِ على انفراد.»
«إذن لا بدّ أنّكَ مُتعَب. في الغرفة الكبيرة هناك سريران كان قد استخدمهما سمعان وتوما. والمكان هناك لا يزال هادئاً ومنعشاً. اذهب ونم فيما أُعدّ لكَ بعض الطعام.»
يهوذا يمضي دونما مناقشة. ومريم، التي لم ترتح بعدما بقيت مستيقظة طوال الليل، تذهب إلى المطبخ كي تشعل النار، ومِن ثمّ إلى البستان لإحضار بعض الخضار. ودموع كثيرة تتساقط بصمت عندما تنحني فوق الموقد لترتّب الحطب، أو عندما تنحني كي تقطف الخضار، وبينما تغسلها في الحوض وتحضّرها... ودموع تتساقط مع الحبوب الشقراء التي تنثرها للحَمامات، وهي تتساقط فوق الملابس التي أَخرَجَتها مِن حوض الغسيل، والتي تنشرها تحت الشمس... دموع أُمّ الله... دموع الأمّ المنزّهة عن كلّ خطيئة، التي لم تكن معفاة مِن الحزن، والتي عانت أكثر مِن أيّة امرأة أخرى.