10 أغسطس 2016

العطر - قصة قاتل ج1


 ظهرت يد الرضيع من تحت الغطاء، صغيرة ووردية اللون واخذت بين الفينة والاخرى ترتجف عند ملامسة خده. ابتسم وهو يشعر بالراحة تغمره فجأة. وللحظة تناول الطفل ووضعه على ذراعيه وهدهده برقة، وارتاح لهذه الفكرة. فهي فكرة رائعة, اب يهدهد ابنه ، انها لصورة قديمة قدم الحياة، ومتجددة في الوقت نفسه طالما ظلت الحياة، عندها شعر وحيد بالدفء يملأ قلبه وبالعاطفة تجتاحه.
عندئذ استيقظ الطفل واول ما استيقظ منه كان انفه الضئيل ، استنشق الهواء، وزفره بدفعات قصيرة وكأنه يعطس، ثم فرك انفه وفتح عينيه. كان لون عينيه يشبه لون الرخام الابيض وتشعان بنور صاف. سمع الدوي مجددا .. في الحال تبخرت فكرة الحياة الشاعرية حول علاقة الاب بابنه وضاعت معها رائحة الام الطيبة. وشعر بنفسه كمن انتزع من غلالة الافكار الحالمة التي احاط نفسه والطفل  بها في خياله.. وضع الصغير في مهده ونهض بحركة سريعة .. عندئذ بدأ الطفل بالبكاء، فرك عينيه بظهر احدى يديه الصغيرتين، فتح حلقومه الاحمر على اوسع مداه، واطلق عقيرته بالبكاء جعل وحيد يجفل فمد يده وتناول الطفل مهدهدا اياه وصارخا بصوت يعلو على صراخ الطفل: "دادا دادا" محاولا اسكات الطفل. لكن صراخ الطفل ارتفع وازرق وجهه وبدأ كأنه سيتوقف عن التنفس، الامر الذي جعل الدم يتجمد في عروقه.. يقرر ان يسلم الرضيع لبيت رعاية.. ليس هناك سوى مدام كلارا..
اما مدام كلارا فعندما كانت طفلة تلقت من والدها ضربة ادت الى فقدانها البصر باحدى عينيها. مع هذه الضربة اصبح الحنان غريبا عنها والفرح كاليأس.. ومرت الايام واصبحت مسئولة عن بيت للايتام. وفي ادارتها لهذا البيت كانت تمتلك مفهوما خاصا للعدالة، فهي لم تفضل طفلا على اخر. كانت تقدم ثلاث وجبات يوميا للاطفال دون ان تضيف ولا قطعة خبز بينها. كانت تحفّض الصغار ثلاث مرات يوميا حتى انقضاء العام الثاني من عمر الطفل. اما من استمر بعد ذلك في تلويث ثيابه فقد كان يتلقى توبيخ و صفعات ووجبتين لا اكثر. كانت تنفق نصف الدخل على اطفال ملجئها والنصف الاخر بكامله تحتفظ به لنفسها.. كانت دائما  انها لم تضف قرشا واحدا للمصاريف حتى لو تعلق بمسألة حياة او موت ، فهي بحاجة للمال وقد حسبت الامر بمنتهى الدقة. كانت تريد ان تضمن من المال ما يؤمّن لها ان تموت في منزلها، لا ان تموت في "مستشفى نزل الرب" المتواضع كزوجها. ان موته لم يخلف عندها اية مشاعر، لكنها ارتعبت من هذا الموت العلني امام عشرات من الغرباء.
عند هذه السيدة - التي لا روح لها - نمى الصغير. كان جسمه شديد المقاومة: فمن ولد مثله في وسط القمامة وعاش ، بالتأكيد لن يقوى عليه الموت بسهولة. كان قادرا على الاكتفاء بحساء الخضار اياما طوالا او بافقر انواع الحليب. وخلال سنوات طفولته تمكن من ان ينجو من امراض الحصبة و الدرن والالتهاب الرئوي وغيرها من الامراض المستوطنة. كما نجا مرة من السقوط من الطابق الثالث ، وفي مرة اخرى من الارتطام على الدرج، ومن انسكاب الماء المغلي على صدره. صحيح ان اثار ذلك ظهر في ندوب واخاديد وفي قدم عرجاء لكنه عاش. كان شديد المقاومة كالبكتريا المقاومة للعقاقير . كان جسده قادرا على الاكتفاء بالحد الادنى من الغذاء والملبس.
ما ان انقطع الراتب السنوي الذي يصلها نظير رعاية غرينوي، اقتادت الصبي باتجاه المدينة. كانت تعرف بالقرب م النهر دباغا يدعى غريمال . كان مشهورا بحاجته الى الاطفال كايد عاملة، لا كتلاميذ او متدربين، بل كعمال باجر زهيد. والمعروف عن اجواء هذه الحرفة ان فيها اعمالا شاقة كسلخ الجلد ومزج سوائل الدبغ والتلوين السامة وتشريب الجلد بالقلويات وكلها امور خطرة لا يجازفلا المعلم بتعريض حياة تلاميذه لها ان امكن بل يعتمد على حثالة العاطلين عن العمل او على الاطفال الذين لا يسأل عنهم احد. كانت مدام كلارا تعرف ان لا فرصة امام غرينوي للبقاء على قيد الحياة ، ولكنها لم تكن تشغل بالها بمثل هذه الافكار، فهو ان عاش فهذا حسن وان مات فهذا حسن ايضا. فبقاء غرينوي كان سيعرض مستقبل الاطفال للخطر بل مستقبلها هي، اي موتها الخاص المضمون والذي ليس لديها ما تامله في الحياة سواه.غل بالها بهذه الافكار فقد ادت واجبها تجاه رعايته اما ما يحدث منذئذ فهذا ليس من شأنها.
وبما اننا عند هذه المرحلة من قصتنا سنترك مدام كلارا دون ان نلتقي بها مرة اخرى فيما بعد فاننا نود ان نكرس بعض السطور لوصف اخر ايامها. ان مدام كلارا - التي ماتت من الداخل منذ طفولتها- امتد بها العمر طويلا، بل طويلا جدا. عندما شارفت على السبعين تخلت عن مهنتها واكتفت بالراتب التقاعدي الشهري الذي تتقاضاه، وقبعت في منزلها منتظرة الموت. لكن الموت لم يأت. بل جاء بدلا منه ما لم يكن في الحسبان، وما لم يسبق ان وقع في هذا البلد ابدا، اي الثورة! وما تبعها من التبدل السريع في الاحوال. في البداية لم يكن لهذه الثورة اي تاثير مباشر على مصير مدام كلارا و لكن فيما بعد – عندما قاربت الثمانين من عمرها – سمعت بان المسئولين عن راتبها التقاعدي قد اضطروا للهجرة وان املاكهم قد صودرت ولفترة قصيرة لم يكن لهذا التحول اي اثر على احوال مدام كلارا لانها ظلت تتقاضى راتبها في ميعاده. ثم جاء اليوم الذي تسلمت فيه راتبها على شكل اوراق صغيرة مطبوعة بدلا من القطع المعدنية المصكوكة. انئذ بدأت نهايتها المادية . فبعد مرور عامين لم يعد الراتب يكفي لشراء ضروريات الحياة. ولذا وجدت مدام كلارا نفسها مضطرة لبيع اثاث بيتها ثم بيتها نفسه وبسعر بخس اذ فجأة كان هناك الالاف ممن اضطروا لبيع  بيوتهم. وللمرة الانية تلقت مدام كلارا المبلغ بهذه الوريقات السخيفة التي فقدت بدورها قيمتها بعد مدة تقل عن سنتين. وعندما شارفت على التسعين كانت قد فقدت كل ممتلكاتها الدنيوية التي بذلت في سبيلها الجهد الجهيد، لتسكن حجرة مفروشة في شارع.
وعندها فقط جاء الموت المتأخر عشرة بل عشرين عاما في شكل مرض سرطاني قبض على حنجرتها فسلبها الرغبة في الطعام ثم القدرة على النطق، بحيث لم يعد بامكانها الاحتجاج ولو بكلمة واحدة عندما اودعوها في مستشفى "نزل الرب" حيث وضعوها في نفس القاعة المزدحمة بمئات المرضى المشرفين على الموت، حيث مات زوجها .. وعندما ماتت نقلوها مرافقة برنين جرس خافت الى المقبرة التي تبعد ما يقارب ميل واودعت في مثواها الاخير.
***
اما غرينوي فقد انتقل لعمل مع دباغ. مع النظرة الاولى التي القاها غرينوي عرف ان هذا الرجل لن يتورع عن ضربه حتى الموت لابسط عصيان قد يصدر منه. وهكذا انكمش على نفسه وبمرور الايام ازداد انغلاقه على نفسه، كابتا في اعماقة الرفض والتمرد الذي يعتلج في صدره. كان يتلقى الامر فينفذه في الحال.
في  الحواري المتفرعة من شارع سان جان ومن شارع سان مارتان كان الناس يعيشون الى جانب بعضهم بكثافة كبيرة بحيث تزاحمت البنايات فبلغت الى ارتفاع خمسة الى ستة طوابق حاجبة عن الانسان رؤية السماء، كما كاد الهواء بالاسفل يتجمد من كثرة الروائح فاختلطت روائح البشر بروائح الحيوانات الى جانب السديم المتشكل من ابخرة الطعام والمياه والاحجار والرماد والغبار والقش الرطب والجاف. لتكون خليطا لا مرئي يملأ الازقة ..اما غرينوي فقد شم كل شئ وكأنها المرة الاولى وهو لم يشم خليط الروائح في كليته بل حلله الى تفرعاته وجزئياته الاصغر فالاصغر. كان انفه الحساس قادرا على فك الكتلة المؤلفة من الروائح الى خيوط روائحها البسيطة وكم كانت متعته هائلة بلف هذه الخيوط واعادة نسجها على هواه. كان كثيرا ما يقف متكئا على جدار احد البيوت بعينين نصف مغمضتين وفم نصف مفتوح ومنخارين منتفخين، متربصا كسمكة مفترسة في عتمة المياه الجارية ببطء. وقف على لسان "ساحة " الذي كان يبدو كلسان هائل يلحس ماء النهر، فهنا كانت ترسو السفن التي تفوح منها روائح الفحم والحشائش الجافة والحبال الندية.
شم ايضا روائح فاخرة ومركبة من المسك والنرجس والياسمين. روائح تخلفها عربات النبلاء وراءها كوشاح ثقيل يداعبه النسيم. لم تختلف قيمة الروائح لديه ولم يعرف بعد ما هو الطيب منها وما هو الكريه. ولم يتوقف لحظة عن تصنيع مركبات عطرية جديدة في مخيلته. لم يكن غرينوي قد امتلك بعدج مبدأ جماليا كدليل لعملياته بعد. فجاءت ابتكارالته غريبة شاذة . سرعان ما كات يخربها كطفل يلعب لعبة البناء مجددا ومخربا دون مبدأ ابداعي واضح. 

ليست هناك تعليقات: