يا الهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات العالم الفانية؟ انه قطعة من قلب الحياة.. رباه! الا زلت اذكر هذا اليوم الذي فصل بين الحياة والموت؟ .. بلى، في ذلك اليوم غادرت قصر الامير قبل الغروب وكانت الشمس قد مالت عن الافق وبقايا من اشعتها تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل فاخذت طريقي المعهود الى بيتي الجميل.. ثم حدث ما ليس في الحسبان.. شعرت بألم شديد.. ما هذا الالم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي سببه جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع، وثابرت وصبرت فغلبت الاعياء العزم .. اما هذا الالم المضني .. هذه الرعشة .. فطارئ جديد.. امتلأت منه رعبا. اخذت الطريق قلقا متأوها .. وعند عتبة البيت طالعتني زوجتي، رفيقة شبابي وام ابنائي وانيسة دربي، فهتفت بي في جزعشديد:
- توني ايها المسكين مالك تنتفض .. ما لعينيك مظلمتين؟ فقلت لها مكتئبا:
- دثريني، واستدعي الطبيب بسرعة!
ثم هويت الى فراشي وحالا غرقت في ابخرة الحمى.. واشتد الدوار برأسي .. وسال بلساني الهذيان.. وشعرت بيد الموت تمتد الى قلبي.. ما اقساك ايها الموت! اراك تتقدم الى هدفك بقدمين ثابتتين، وقلب صخري.. لا تتعب ولا تسأم و لا ترحم.. لا تهزك الدموع ولا تستعطفك الامال.. تدوس حبات القلوب وتتخطى الاماني والاحلام .. لا زلت في السادسة والعشرين.. الا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت انفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما اشبع من الحياة الجميلة.. لم ازهد فيها بعد.. وليس فيها ما يسؤوني.. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والامال كبارا.. ودار بخلدي اشياء لا حصر لها ولا حد لها بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر واماني المستقبل.. وجرت امام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمأكل والاولاد والالحان والافكار .. والالقاب والفخر والجاه ..وتساءلت:
- ايمضي كل هذا الى الفناء؟
وانقبض صدري وامتلأت حزنا وكمدا وهتفت كل جوارحي:
- لا اريد ان اموت..؟
وتتابعت جحافل الليل فغالب النوم الصغار ولبثت زوجتي عند رأسي وامي عند رجليّ .. وانتصف الليل .. داخلني شعور غريب بالرهبة ، وتولاني احساس بالخوف.. واطبق السكون وانذر بشئ خطير.. ثم شعرت بيد امي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج:
- بني .. بنيّ!
وهتفت زوجتي المحبوبة:
- توني توني .. بماذا تشعر؟
لكنني لم استطع جوابا – لا شك ان امرا استثار جزعهما .. ترى ماذا يكون؟