قال الكثير من النقاد ومن بينهم فيليب يانسي في كتابه "اكثر 13 شخصية اثرت فيّ"، ان روايتي "الحرب والسلم" و"انّا كارنين" من اعظم ما كتب تولستوي. لم ادرك السبب الا بعدما قرأت رواية انّا كارنين.
هذه الرواية تجعلك تدخل الى عمق المشاعر الانسانية، في اعمق العلاقات، اقصد علاقتي الزواج والامومة. علاقة الزواج متمثلة في علاقة انّا بزوجها كارنين، وعلاقة الامومة متمثلة في علاقتها بابنها سيرجي.
هناك مقولة تقول "ينبغي ان نعلم ان قرار الزواج على مستوى الافراد هو في نفس خطورة قرار شن الحروب على مستوى الدول". كنت اعتبر هذه المقولة فيها مبالغة. ولم ادرك حقيقتها الا بعد قراءة الرواية. في سني الطفولة والشباب لا ندرك الحياة بكل تعقيداتها وفي العموم نرسم صورة حالمة عن الزواج، حتى اننا ننظر بسذاجة و سطحية الى الخلافات الزوجية.. ونسأل في دهشة عن الاسباب، وحين نعرف الاسباب في بعض الحالات تزداد دهشتنا..
لست اقصد من كلامي التعقيد او التهويل من الامر، ولكن ينبغي ايضا الا نهوّن من شأن هذا القرار المصيري اي قرار اختيار شريك الحياة. قال البابا شنودة الثالث مازحا حين كان يسأل عن قانون الاحوال الشخصية "انها الاهوال الشخصية" باستبدال حرف الحاء بالهاء. وقال ايضا البابا تواضروس الثاني حينما سئل عن نفس القانون ان كل مشكلة من مشاكل الاحوال الشخصية، في حد ذاتها، تحتاج الى قانون خاص بها. ولا غرو لأن العلاقات الزوجية تتنوع تنوع البشر انفسهم. فلا يوجد علاقة بين زوجين تشابه علاقة زوجية اخرى.
حاول تولستوي في رواية انا كارنين ان يلج عميقا اغوار النفس التي لا يسبر اغوارها فاظهر ملمحا من ملامح شخوص الرواية الشديدة التعقيد ويكتنفها الغموض. انك كقارئ تجد نفسك مدفوعا للتفاعل مع الشخصيات في محاولة ومساعدتها لتتخذ قرارا صائبا بازاء امر ما، ولكنك تجد نفسك حائرا مثلها. تقف امام كارنين فلا تعرف ان تسعفه برأي في اتخاذ قراره بشأن علاقته بأنّا، كما لا تعرف ان تصفه بناءا على قرارته التي اتخذها، ومن ثمّ لا تعرف ان تصف نفسك لانك تقف حائرا مثله.. او كما جاء على لسان فرونسكي "ما اعسر زوجك على الفهم! اهو جبان ام شجاع؟ اهو شريف ام خائن؟ اهو قوي ام خائر؟ اهو عاقل ام ابله؟ لابد انه واحد من اثنين، لكن ايهما يا ترى؟ ..
تجد نفسك تتوقف امام شخصية آنا طويلا وتسأل اسئلة كثيرة عن معانى مثل الحب والامومة وعن الالتزام وعن الشجاعة والحكمة في التصرف، وعن التروي في اتخاذ القرارات، عن الصراحة وعن اللياقة، عن مجابهة الواقع وعن الهروب منه ايضا.. الزواج قرار جرئ - ان تتعهد بالالتزام بمحبة شخص مدى الحياة وملازمته في السراء والضراء امر يحتاج الى الكثير من التروي. بلا شك كان قرارا متهورا من انّا ان تترك زوجها. ان تصارحه بأنها لا تحبه وانها تحب شخصا اخر كان امرا مشينا، وكان قرارا ينم عن انانية بغيضة ايضا. لا يوجد ما يسمى بالحب من النظرة الأولى ولذلك فان علاقتها الناشئة مع فرونسكي كان خيارا واعيا، وكامرأة متزوجة ما كان لها ان تخطو تلك الخطوات الكارثية.
الرواية تجعلك تتأرجح بين التعاطف مع انّا والشفقة عليها كزوجة مهيضة الجناح، وبين احتقارها لتهتكها. موقفها من ابنها يجعلك ترق لها اذ تشعر انك امام ام حقيقية، ثم يأتي موقفها من زوجها كارنين ليجعلك تقف متحيرا اذ تواجه الانسان في ضعفه وتبدل مشاعره. قصتها تجعلك تفكر ألف مرة في مسائل الحب والزواج. والصورة التي صوّرها تولستوي لها تجعلك – ويا للماساة – تتيقن انها ستحيا غير سعيدة على الدوام. انها شخصية حزينة ومأساوية، ولكن ليس بسبب قصة حبها، ولكن بسبب ان كيانها كله اكتنفه الظلام. قصتها تتكرر في كل عصر وكتب التاريخ تحوي في بطونها صور متكررة من مأساتها وان اختلفت في تفاصيلها.
كان تولستوي بارعا في ان يجعلك تكتشف هذه التناقضات في الحياة وفي الشخصيات. تقف امام ام يفيض قلبها رقة وحنانا ازاء ابنها وفي نفس الوقت تهجر زوجها لترتبط بآخر. يصوّر تولستوي ذلك ببراعة في وقفات انسانية مؤثرة. حينما سألها ابنها :
- "اتحبيني يا اماه؟"
ناجت نفسها : "يا الهي كم احبه؟ الا افتديه؟ الا اقدم له حياتي؟"
واغرورقت عيناها بالدموع .. كان ظهور ابنها بمثابة النسمة المنعشة تهب على القلب المهيض فتنفخ الحياة في مواته، وتبدل المه بالامل، وتعطيه القوة والجلد.
كان موقف كارنين ازاء تصريح زوجته بانها تخونه عجيبا. يتخذ تولستوي موقف الراوي للتعليق على رد فعله فيقول:
"ما كان للانسان في اي جيل ان يكنه حقيقة ما جبل عليه الرجل.. كان ملما بالحقيقة ولكنه كان يتجاهلها حتى لا ينهار ويسقط، وهل في طاقته الان ان يتجاهلها؟ هل يستطيع ان يواصل هذا الدور الذي اداه بصبر حتى الان؟
فهل يتكلم؟ وما جدوى الكلام؟ لقد انتهى كل شئ وغدر به الدهر في موطن حساس، فهل يستسلم؟ هل يلقي السلاح؟ ايقضي على مستقبله دون كفاح؟
انه شجاع، وعاطفته ليست كل شئ.. انه يعيش لهدف، وهدفه ان يتقدم ويتقدم باستمرار دون انقطاع.
يجعلك تولستوي متحيرا ازاء تصرف كل شخصية. كما يجعلك متأرجحا في مشاعرك تجاهها: هل تلتمس لها الاعذار ام تدينها باصرار؟ يجعلك ازاء كل تصرف تقلبه على كل وجه لتدرك ابعاده - اسبابه وعواقبه. تدرك الانانية في تصرف كارنين فتمجه ، مثال ذلك حين يعلّق على رد فعل كارنين بعدما عرف بخيانة زوجته:
"وخيل اليه .. انه يحتم عليه الان ان يلاشي قلق نفسه حتى تعود اليه نفسه.. وان ينقي روحه مما علق بها حتى يرجع اليه هدوءه، ويعود اليه اتزان، فيزاول اعماله بما عرف عنه من الهمة والكفاءة.. وسوّلت اليه نفسه ان يتخذ الاجراءات القانونية لتطليق امرأته، ولكن كيف يطيق بعد ذلك رؤيتها تتنقل بين احضان الرجال، انها لن تستطع ان تتزوج بعد طلاقه منها، لأن الكنيسة تحرّم زواج المطلقة.. انه لم يشعر نحوها بالمحبة، ولكنه ايضا لا يرغب في رؤيتها تنحدر الى الدرك الاسفل. اهو الاشفاق ام الانانية؟
انه يحب الانتقام، لقد اكتشف هذا الان..