19 مايو 2016

رواية "صوت من الريح" - مراجعة

صوت فى الريح - الجزء الأول #علامة الأسد

My rating: 5 of 5 stars

سؤال شائع يخطر على ذهن اي شخص يقرأ هذه الرواية هل هذا الرواية لها بعد ديني؟ الاجابة بكلمة واحدة بسيطة ستكون: "نعم." هذه الرواية رواية مسيحية عن الفترة الزمنية التي سجل فيها الكتاب المقدس (العهد الجديد). وتوجد اشارات للكتاب المقدس في جميع فصول القصة: الاسماء – البلاد – الاحداث ....

فكرة عن الرواية:
تدور احداث القصة حوالي عام 70م او بعد 40 عاما من صلب المسيح، حيث كان اتباع يسوع يتعرضون للاضطهاد. كونك مسيحيا كان شيئا مخيفا خلال تلك الفترة، لأنه إذا اكتشف ذلك فهذا يعني أن تكون طعاما للأسود للترفيه عن الرومان.

لفهم رواية "صوت في الرياح" من المهم أن نعرف قليلا عن الشخصيات الأربعة الرئيسية في القصة.

شخصيات الرواية:
هداسا او هدّسة: فتاة يهودية صغيرة قتل أهلها اثناء خراب اورشليم على يدي تيطس القائد الروماني. سبيت هداسا من وطنها وبيعت كعبدة او امة. انها قد ولدت يهودية (اليهودية تعني على حد سواء الجنسية والدين)، ولا أحد كان يشك أنها مسيحية. لم يكن ينظر إليها على أنها تشكل تهديدا بسبب مظهرها العادي البسيط، ولكن جمالها الداخلي كان يجذب الناس لها. انها أيضا عبدة لسيدة تدعى جوليا.

ماركوس فاليريان: هو شاب ثري في أوائل 20 العشرينات من عمره. في عالمنا المعاصر كان يعتبر "داعر"، لأنه كان يعرف نساء كثيرات. انه وسيم جدا ولديه ثقة كبيرة في نفسه.

جوليا فاليريان: أخت ماركوس، فتاة في سن المراهقة. فاسدة، أنانية، وفتاة عابثة. لديها قدر كبير من الجمال الخارجي كان موضعا لحسد العديد من النساء ومحط انظار كثير من الرجال.

اتريتاس: كان محاربا في بلاده، سبي من بلاده واجبر على المصارعة. وكان يعامل مثل الحيوان. وضع في قفص وأجبر على القتال والقتل للبقاء على قيد الحياة. كان ذلك يتم كنوع من الرياضة والعروض الرياضية التي تقدم في المسارح الرومانية انذاك من أجل إمتاع وتسلية الرومان. امتلأ قلبه بالكراهية من الرومان وما فعلوه به من اسره واذلاله.

نقد الرواية:
في العموم أحببت الجزء الأول من الرواية، والذي يصوّر سقوط اورشليم وايضا يصوّر انتقال هداسا الى العبودية الرومانية. كنت منذ عدة سنوات مهتما بهذه الفترة الزمنية التي سجلت في "خراب اورشليم" والذي صورفي رواية "مذكرات يوسيفوس".

كان لدي من قبل صورا مخزنة في اذهاننا عن الحقيقة التاريخية الخاصة بأن المنهزمين في الحروب يصبحون عبيدا للغزاة، ولكن وصف "فرانسين ريفرز" المثير، جعل الرعب واقعا ملموسا وعمّق صدمة تلك الصور بطريقة لم أفكر بها من قبل. اعتقد ان اي قارئ لهذه الفصول الاولى لا يشعر الا والدموع تفر من عينيه حين يفكر في عدد الأشخاص الذين عانوا من دمار وخراب اورشليم على ايدي الرومان. كما أنني وجدت تصويرا مثيرا للاهتمام بروما القديمة. أنا مبهور بالطريقة التي صورت الروائية بها للقارئ كم الفساد والشر الذي كان يسود في المدينة، دون أي تشتيت لذهن القارئ بالخوض في الكثير من التفاصيل. وهذه الجزئية هامة للدراسة لاي مجتمع يقبع الفساد داخله لفترة من الوقت قبل أن يتحول إلى مجتمع يرتدي ثيابا من الفضيلة ويتجاهل الفساد به.

ومع ان الفصول الاول كانت تراجيدية بشكل هائل الا ان الرواية تمتلئ في الفصول اللاحقة بخضم من المشاعر الانسانية على اختلاف انواعها وخاصة الرومانسية ويمكننا القول ان "ريفرز" كانت ناجحة كروائية رومانسية قبل اعتناقها المسيحية، وتستعرض في الرواية هذه المقدرة والموهبة الخاصة.
على المستوى الروحي، صورت فرانسين صراع هداسا مع مشاعر الخوف من الكشف عن هويتها المسيحية ومشاركة البشارة بالإنجيل مع الاخرين، رغم الظروف القاسية التي مرت بها من اضطهاد الرومان للمسيحيين في تلك الفترة، ولكن يا لها من نعمة أنها كانت قادرة على مواجهة هذا العنف وقسوة العبودية دون أي ضرر نفسي يعيقها عن الاستجابة كمسيحية لدعوة مشاركة الانجيل مع الوثنيين! ولكن، ومع ذلك، نقول ان الكمال أو شبه الكمال في الأبطال والبطلات هي العنصر الرئيسي في هذا النوع الرومانسي من الروايات.
لذلك، كانت مشاعري تجاه رواية "صوت في الرياح" مختلطة. هل الرواية اعجبتني؟ نعم. واتشوق لقراءة باقي اعمال الروائية المبدعة فرانسين.


9 مايو 2016

صوت في الريح



"لماذا تواظبين على التعبد لاله تخلى عنك؟"
فاجأها سؤاله، فرفعت نظرها اليها ولم تنبث ببنت شفة. اما هو فقد تابع كلامه قائلا: "عليك ان تختاري الها آخر ألطف بك من الاله غير المنظور الذي كنت منبطحة امامه قبل قليل".
احمر وجهها وفكرت، كم مضى من الوقت وهو يراقبها؟ لقد التمست عزلة الحديقة في الليل،ظانة انها ستحظى بخصوصية ،وان واحدا لن يراها هناك.
"حسنا ألا تستطيعين ان تجيبي؟"
اجابت متلعثمة: "ان الهي لم يتخلى عني يا سيدي".
فضحك ساخرا: "مدينتك المقدسة (اورشليم) خربة ، وشعبك مشتتون على وجه الارض، وانت عبدة. كل هذا وتقولين ان الهك لم يتخل عنك؟"
فأطرقت رأسها.
"انظري اليّ يا هدسة الصغيرة". واذا امتثلت لامره، اذهلته عيناها الداكنتان في ذلك الوجه البيضاوي الصغير. "اما يهمك انك فقدت حريتك"
"جميعنا نخدم شخصا ما او شيئا ما"
فابتسم. "افتراض يثير الاهتمام. ويا ترى من اخدم انا؟"
ولما بدت اشد جبنا ان تجيب. قال لها بلطف متناه: "لست انوي ان اؤذيك. هيا اجيبي. برأيك ، من اخدم انا؟"
"روما"
اضحكه ذلك وقال مكررا: "روما" ثم اضاف: "اذا كنا جميعا نخدم شيئا ما، فانا اخدم رغباتي وطموحاتي". وبينما هو يسترسل تساءل في نفسه عن سبب اعترافه بهذا لمجرد فتاة عبدة. وازعجه ان تنظر اليه فتاة عبدة نظرة اقرب الى الشفقة، فقال مستهزئا: "هذه غاية الحياة ، اليس كذلك؟ ان تسعي الى السعادة وتحصلي عليها اينما وكيفما استطعت. فما رأيك؟"
"لست اعتقد ان غاية الحياة هي ان يكون المرء سعيدا، بل ان يخدم. ان يكون نافعا".
فقال: "بالنسبة الى عبدة، هذا الكلام صحيح". ثم حول عينيه عنها وهو شاعر انه مرهق .. مرهق حتى عظامه.
"ألسنا جميعا مستعبدين لشئ نتعبد له" وجعلت هذه الكلمات رأسه يدور نحوها من جديد.
"اذا بكلماتك انا اخدم نفسي فانا عبد لنفسي".
تراجعت خطوة الى الوراء والدم يتلاشى من وجهها. "التمس عفوك، يا سيدي. لست فيلسوفة".
"لا تنسحبي الان يا هدسة.حدثيني بعد حتى اتسلى"
"ما انا حتى تسألني عن اي شئ؟ ألديّ اي حكمة انقلها اليك؟ انا مجرد عبدة"
ان ما قالته صحيح، فاي اجوبة تمتلكها عبدة حتى تقدمها اليه؟ ولماذا بقى في الحديقة معها؟ لقد ضايقه شيئا ما، وهو اراد فعلا ان يعرف منها شيئا. اراد ان يسألها عن سبب تمتعها بسيماء السلام رغم ما كابدته من الام. ولكنه بدلا من ذلك قال بحدة : "وهل كان ابوك عبد ايضا؟"
"نعم"
"وبماذا آمن؟"
"امن بالحب"
اجفل. لقد سمع هذه الكلمة مرارا من صديقته "اريا". انه يعرف كل شئ عن الحب. وقد تركه الحب منهكا وخايا. كان في وسعه ان يغرق في الحب ولكن حين ينتهي يجد نفسه ما زال جائعا.. جائعا الى شئ ما لا يستطيع تحديده. لا، ليس الحب هو الحل.بل ربما كان الامر كما اعتقد دائما:"القوة". القوة تأتي بالسلام، والمال يأتي بالقوة.
لماذا فكر ان يتعلم شيئا من هذه الفتاة؟ انه يعرف الجواب، اليس كذلك؟ لذلك اجاب بجفاء: "يمكنك ان ترجعي للبيت".
ان مرقس فاليريوس كان يملك كل ما يمكن ان يقدمه العالم لرجل. ومع ذلك ها هو واقف هناك صامتا ومحروما على نحو يدعو للعجب. اكأن كل تكبره وغناه علامة على عذاب داخلي؟
وادركت هدسة عذابه ولكنها كيف يمكنها ان تعلم روماني عن الله، هي تعلم ما عمله نيرون. قالت برقة:"عسى ان تدرك السلام يا سيدي" ومضت.
اما مرقس فقد راقبها حتى غابت عن نظره.

عن رواية "صوت في الريح" - فرانسين ريفرز
==
عن رواية "صوت من الريح" - فرانسين ريفرز

4 مارس 2016

من مذكرات سجين


لقاء بعض الجنيهات القليلة حصلت من بائع الروبابكية الذي اتي ليأخذ مخلفات الراحل على عدة دفاتر قديمة واوراق مهملة. مضيت باوراقه هذه الى البيت وامضيت اليوم بكاملهه في فرزها. ثلاثة ارباع هذه الاوراق كانت عديمة الجدوى، قصاصات لا اهمية لها. ولكن ما لبت ان عثرت توا على دفتر كبير الحجم الى حد ما مغطى بكتابة دقيقة الخط وغير مكتملة، ربما اهمله او نسيه صاحبه ذاته. انه سرد وان كان غير مترابط، للسنوات العشر الاخيرة من حياته.
وفي بعض الامكنة كان هذا السرد متقطعا بقصة اخرى، وذكريات غريبة ورهيبة، متناثرة بصورة مضطربة. اعدت قراءة هذه المقاطع عدة مرات وتيقنت تقريبا انها مكتوبة في لحظات جنون. بدت لي غير خالية من المنفعة. عالم جديد تماما، غير معروف حتى الان، غرابة ورؤية مختلفة للحياة. شغفت بكل هذا فقرأت بنوع من الفضول. قرأت التالي:
".. ثم هناك من الرجال المساكين الذين يرتكبون جرائم من اجل ان يرسلوا الى السجن ويتخلصوا بذلك من حرية اشق بما لا يقاس من السجن. لقد عاشوا قبل المجئ للسجن حياة بائسة وتعيسة ولم يأكلوا حتى الشبع ، قتلوا انفسهم بمشقة العمل دون ان يغتنوا بل اغتني على حسابهم ارباب اعمالهم. لذلك فهم حين يأتون الي سجن الاشغال الشاقة يعتبرون العمل اقل مشقة واقل صعوبة، يأكلون ملء بطونهم، افضل مما تمنوا يوما. وفي ايام الاعياد يأكلون لحما. ثم هناك عمل المساء الذي يدر عليهم بعض المال. ثم هناك المجتمع الجديد الذي يتعرفون عليه في السجن وقد ينظر الوافد الجديد منهم ليجد نفسه وسط افضل صحبة في العالم..

ان المثقف الذي حكم عليه القانون بالعقوبة نفسها التي حكم بها على رجل بسيط من الطبقة الكادحة، يتألم بما لا يقاس بألم هذا الرجل الاخير. ينبغي عليه ان يحتمل حياة ادنى، لا يرتضيها، انه يتعود استنشاق هواء اخر.. انه سمكة ملقاة على الرمل! ان العقاب الذي يتلقاه يعادل عقوبات السجناء جميعا، تبعا لروح القانون، وهو في بعض الاحيان اشد ايلاما وتعذيبا له بمقدار عشرة اضعاف ما يعانيه الرجل العادي.هذه حقيقة لا جدال فيها! 

احد السجناء الذي لفت انتباهي حين وصولي، مزاجه الرائق كان لا يفارقه ابدا، ولم تكن حياة السجن تبدو شاقة كثيرا، بينما كان اخر – وهو من الطبقة الراقية المثقفة - ذو منظر يستدر الشفقة، وكانت صحته تضعف يوما بعد يوم. تلك الافكار عصفت بذهني بعد وصولي الى السجن بأيام قليلة، وسط هواء موبوء وشتائم بذيئة مصحوبة بسباب وضحكات هيستيرية وضوضاء لا تنقطع. استلقيت فوق سرير مسندا رأسي الى وسادة من ثيابي "لم تكن لي وسادة بعد" . وسرحت بافكاري المتتابعة.. ان حياتي الجديدة لم تبدأ الا الان. وكان المستقبل يخبئ لي اشياء كثيرة لم تكن في الحسبان..

ها انا قد وصلت الى السجن، الميناء الذي سأرسو فيه سنينا طويلة. هنا الركن الذي عليّ ان اعيش فيه، انني ادخل اليه منقبض القلب، تموج النفس باحاسيس الارتياب والحذر. ومن يدري؟ حينما سأغادره – لو اطال الله في عمري – هل ساتأسف عليه كما فعل البعض ممن اعرفهم؟ ان المرء قد يفعل ذلك مدفوعا بتلك اللذة الغريبة التي تدفع المرء الى ان ينكأ جراحه، وكأنه يستعذب الالم.

ان النظرات الفضولية الحاقدة التي كان يراقبني بها بعض رفاقي السجناء، من قساة القلوب، كانت تثير حفيظتي في البداية الى حد ان تمنيت ان اعيش مثلهم وان اسقط معهم في الهاوية ذاتها. ولم استطع ان اميز سريعا بين عداواتهم العامة لكل شئ ولكل احد، ومودتهم نحو رفقائهم. لذلك فان ما احاطني به بعض السجناء من مودة وبشاشة اعاد لي قليلا من الشجاعة وانعش نفسي. وسرعان ما لاحظت بعض الوجوه الوديعة والطيبة وسط ذلك الحشد القاتم والحقود من السجناء الاشرار. وسارعت الى القول لنفسي على سبيل العزاء: "في كل مكان على الارض يوجد اشرار. ومن يدري؟ قد لا يكون هؤلاء الاشرار اسوأ من اخرين الاحرار الطلقاء، وقد يكون فيهم هم ايضا بعض الخير". هكذا كنت افكر وانا اهزّ رأسي، ومع ذلك، لم اعرف الى اي مدى كنت على حق. 

لا يحتاج السجين ان يكون غنيا لكي يعد له طعاما خاصا: كنت انفق على طعامي كل ما اتحصل عليه من عملي الاضافي. وطوال عدة سنوات ظل احد رفاقي ويدعي "فريد" يعد لي شريحة لحم مرتين كل اسبوع. اغرب ما في الامر انني لم اتبادل معه ربما كلمتين، طوال تلك المدة. حاولت اكثر من مرة اجراء حوار معه لكنه كان عاجزا عن اجراء اي حوار، كان يكتفي بالابتسام والجواب بنعم او لا عن كل الاسئلة. كان هذا الرجل شديد الغرابة، هذا الرجل الذي له جسم هرقل وعقل طفل في السابعة من العمر.

كان "فاضل" ايضا في عداد اصدقائي. لم اتقرب اليه ولم اسع يوما الي مصادقته، ولكنه ارتبط بي بمحض الصدفة ولا اذكر حتى في اية لحظة. كان يقوم بغلي الماء في غلاية الشاي لي، ويركض لتنفيذ الاعمال التي اطلب منه القيام بها، واعداد كل ما يراني محتاج اليه، فيعتني بكي ملابسي.. وكان يفعل ذلك بحماس وانهماك كما لو كان يحس بأن هذا من واجباته، كنت احسه وكأنه ربط مصيره بمصيري، فأخذ يهتم بكل ما يعنيني وكان يقول فبدلا من ان يقول "لديك قمصان كثيرة .. ملابسك تحتاج الى كي" كان يقول "لدينا قمصان كثيرة.. ملابسنا تحتاج الى كي". وكان كأنه لم يكن يرى شيئا جميلا غيري، بل اظن انني اصبحت الهدف الوحيد في حياته كلها.

وبما انه لم يكن يعرف اية مهنة فلم يكن له غير المال الذي اعطيه له، من مال ضئيل طبعا. الا انه كان راضيا دائما. واعتقد انه ما كان يمكن ان يعيش دون ان يخدم احدا، وقد فضّلني لانني كنت الطف السجناء معه واكثرهم مكافأة له. ما يميز امثال هذا الرجل هو الغياب التام لشخصياتهم، اذ انهم انهم يفقدونها في اي مكان وزمان، وهم دائما في مكانة ثانية وثالثة. وهذه فطرة فيهم. كنت لا استطيع النظر اليه دون ان يختلج قلبي بالشفقة نحوه." 

عن رواية مذكرات من البيت الميت - دوستويفسكي

2 فبراير 2016

مقتطفات من رواية "فهرنهايت 451"


بمناسبة معرض الكتاب هذه الايام ادوّن هذه القصاصات من اسطورة برادبوري "فهرنهايت 451".. صغتها في شكل قصصي، كملخص للرواية.. ليكون هذا حافزا على قراءتك للرواية، التي تعد من اكثر روايات الخيال تشويقا واثارة.

فكرة عن الرواية:
لماذا سميت بهذاالاسم؟ 451 فهرنهايت هي درجة الحررة المثلى لحرق الكتب. فالنار هي الوسيلة المثلى للتخلص من المعرفة والقضاء عليها. اسلوب الرواية ساخر. لاحظ ماذا يقول بيتي في الجزء التالي: "ترى ما الجميل الى هذا الحد في النار؟ العلماء يقولون انها احتكاك الجزيئات، و لا يعلمون ما هي حقا. انها جميلة، وجمالها في انها تدمر التبعات والمسئوليات. كلما تعقدت مشكلة ما فعليك بالمحرقة. والان يا مونتاج انت عبء وسترفع النار عن كاهلي هذا العبء. والان يا مونتاج اريدك انت ان تحرق بيتك بقاذف النار.. اريدك ان تطهر نفسك بنفسك". الهدف من الرواية السخرية اللاذعة من محاولة الرقابة على الفكر - التعريف بالصداقة بين الانسان والكتاب - تصوير رغبة الانسان المستعرة للمعرفة - ابراز موضوع الفضول، وموضوعات اخرى كثيرة صاغها الاديب الانجليزي برادبوري بعبقرية.
يمكنك ان تقرأ اكثر عن الرواية هنـــــــــــــــا
***

فتح مونتاج الباب الموصد، واذ بشلال من الكتب يهوى فوق كتفيه. طارت الكتب فوق كتفيه وكأنها حمامات ترفرف بجناحيها. هوى كتاب على يده وانفتحت صفحة منه. ووسط العجلة وجد وقتا ليقرأ سطرا واحدا، ظل يتوهج في ذهنه وكأنه حفر فيه:

"اخلد الزمن للنوم في شمس الاصيل..".. وسرعان ما هوى كتاب اخر بين يديه. كان الرجال يرمون اليه بالكتب والمجلات والتي بدت كطيور ذبيحة. وما هي الا دقائق معدودة الا وكانوا قد اغرقوا الكتاب بالسائل الحارق من الحاويات التي تحمل رقم 451 على ظهورهم..

صرخ مونتاج في المرأة صاحبة المنزل:
- لسوف يحترق البيت كله. لكن المرأة بقت مرتمية فوق الكتب.
هتف برفاقه:
- ما هذا ! هل تتركونها؟
- ان هؤلاء المجانين يفضلون الموت مع الكتب.. هذا سلوك معتاد..
همّ بالصياح بالمرأة مجددا ولكنها وجدها وقد اخرجت عود ثقاب وعلى وشك اشعاله. فتذكر ان المرأة قالت حين دخل:
- هذا اليوم سنشعل شمعة في انجلترا لن يخمد نورها ابدا.. 

***
اصابه الارق طوال الليل.. عليه ان يتلفظ كلماته بعد الان بطريقة عرائس البانتومايم.. في الصباح شعر بالام شديدة في رأسه وفي عينيه.. ضغط على عينه مكان الالم وهو ينادي زوجته:
- ملدريد، ناوليني من فضلك قرص اسبرين، وكوب ماء.
- ما الذي حدث. انك لم تتناول من قبل قرص اسبرين واحد..
- اشعر بصداع.
صمتت.
- ألن تسأليني ما السبب؟
- لقد كان الامس يوما مرهقا.. تصوري اننا احرقنا بالامس الف كتاب مع امرأة. احرقنا كتبا لدانتي ومرقس اوريليوس.. 
قاطعته:
- وماذا يهم في ذلك. ان الكتب هراء. ان الماجنا كارتا (وثيقة الدستور) يقول ان الناس ولدوا متساوين. والحقيقة انهم لم يولدوا متساوين ، وعلينا نحن ان نجعلهم كذلك.. 
- يبدو ان الحكومة نجحت في تغييب عقولنا. وكأنها تعمل بالقاعدة: ادر عقل الانسان بسرعة في جهاز الطرد المركزي فتتطاير كل الافكار المضيّعة للوقت. اشغل الناس دائما. اعطهم مسابقات يربحون فيها بسهولة. اذا تذكروا اسماء عواصم البلاد او اسماء الاغاني المشهورة. حاول ان تحشو عقولهم بالمعلومات سريعة الاحتراق حتى يشعروا انهم اذكياء. حتى يشعروا انهم يفكرون. هكذا يشعرون بالحركة دون ان يتحركوا. ولسوف يشعرون جميعا انهم سعداء. ان الشخص الذي يفك جهاز تلفاز ويصلحه – وكل الناس بوسعها هذا اليوم – اسعد من الشخص الذي يحاول ان يحل معضلة الحياة وهو امر لن يدركه الا فيلسوف او شاعر - ولن يدركه الا - بالسكون والتأمل.
- سأخذ اجازة فانا مريض اليوم. ربما اسبوع. ربما اكثر. وربما لن اعود الى العمل.

***
جاءه رئيسه في العمل ويدعى "بيتي" لزيارته. صافحه بيتي وهو يقول:
- كل رجل اطفائي يعاني من حكة ولو مرة واحدة اثناء عمله.. يحاول ان يعرف ماذا تقول الكتب.. ويحاول ان يهرش موضع الحكة هذا .. دعني اؤكد لك ان الكتب لا تقول شيئا. ان كانت قصصا فهي تتحدث عن اناس لا وجود لهم. وان كانت غير ذلك فالامر اسوأ. استاذ يعتبر الاخر ابله، وفيلسوف يريد ان يخنق الاخر من بلعومه.. والان ماذا لو حاول رجل اطفاء ان يأخذ كتابا – عن غير قصد – الى منزله؟
وارتجف مونتاج. واستطرد بيتي يقول:
- انه امر طبيعي.. انه الفضول لا اكثر.. نحن ادارة الاطفاء نتعامل مع بحكمة. نتركه 24 ساعة ثم اذا لم يحرقه نأتي ونتناول الامر. هل سننتظرك في وردية الليلة
- اعتقد انني لن اعود الى العمل ابدا..
قال بيتي وكأن ما قاله مونتاج على سبيل المزاح:
- اشف سريعا وعد الى العمل.
***
حين غادر بيتي قال مونتاج لزوجته:
- انا اليوم في اسوأ حال.. اريد تحطيم الاشياء وقتل الناس..
- اذا خذ السيارة الخنفساء و قدها باسرع ما يمكنك..
- لا.. 
صعد الى فتحة التهوية واخذ كتابا والقاه الى الارض وتناول اخر .. كتبا كبيرة وصغيرة بلغت 20 كتابا.
تراجعت ملدريد وكأنها ترى فئران عند قدميها.. تناولت الكتب واسرعت الى الموقد.. امسك بها فصارت تتملص وتخمش ..
- لا يا ميلي. انت لا تعرفين. واعتصر كتفيها و هزها. وهو يقول:
- اصبري قليلا. لابد ان ارى ما فيها اولا. لو كان كلام الرئيس صحيحا لسوف نحرقها معا. هل تسمعين؟
وبدأ مونتاج يقرأ. لا نعرف اللحظة الدقيقة التي تنشأ فيها الصداقة، انها تماما كما تملأ الوعاء قطرة قطرة ثم تأتي تلك القطرة الاخيرة التي تجعله يفيض، وهكذا في سلسلة العواطف هناك عاطفة اخيرة تجعل القلب يفيض بما فيه. وتذكر انه ذات يوم رأى صبيا وقد جلس على شاطئ البحر ومعه غربال يحاول ان يملأه بالرمل، لان ابن عم قاس قال له "لو ملأت هذا الغربال بالرمال فسوف اعطيك قرشا" وهكذا قضى الوقت يحاول ان يملأ الغربال.. لكن الرمال كانت تتسرب من اسفل بلا توقف.. لقد خطر لمونتاج انه يحاول ان يفعل مثل هذا الصبي ، لقد خطر له انه لو قرأ الكتب بسرعة فلربما استطاع ان يملأ الغربال..كانت التوراة في يده وقد ادرك انه خلال ساعات يجب ان يسلمها الى بيتي، لهذا قرر ان يقرأ باسرع ما يمكن.

***

وفي الطريق الى فابر.. واخيرا وصل الى وجهته. وقرع الباب. فتح فابر.

- انت تنظر يا سيد مونتاج الى رجل جبان.. لقد رأيت كيف تسير الامور من سئ الى اسوأ، ولكني لم اقل شيئا.. صمت حتى كان ينبغي الكلام.. صمت حتى فات اوان الكلام. صمت ولم يعد من نفع للكلام الان.

ما عاد احد يصغي لي. سئمت الكلام مع الجدران. الكتب انها ليست الا وعاء لحفظ اشياء خفنا عليها من النسيان، الكتب ليس بها سحرا على الاطلاق، ولكنها تقول اشياء تجعلك تعرف كيف تخيط من الرقع ثوبا يحفظك من برد الشتاء. انها تظهر الثقوب في الحياة، وعوار سياسات لاناس ظنوا انهم فقاء، اذكياء، اكفاء لا يعتريهم نقصان، لهذا يخاف منها كل صاحب سلطان. بينما التليفزيون يغرقك في بحر من الاصوات والالوان، بحيث لا تجد الوقت للتفكير او للانتقاد.. لهذا كف يا بني عن سعيك وعد لقفصك وعش مثل السنجاب. هم لا يعرفون انك كنيزك هائل ملتهب بالنيران، يعبر الارض لكنه لابد ان يرتطم بشئ يوما ما. هم لا يرون الان الا الضوء والوهج واللمعان.
***

خرج من عند فابر وذهب الى بيتي وسلمه الكتاب الذي معه .. تسلمه بيتي والقاه في سلة المهملات حتى دون ان ينظر الى غلافه.. دقائق وتسلم انذارا (بلاغا) .. هرعوا جميعا.. توقفت سيارة الاطفاء امام منزل مونتاج.. لقد كان البلاغ من زوجته بأن لديهم كتبا.. 
قال بيتي مخاطبا مونتاج:
- ترى ما الجميل الى هذا الحد في النار؟ العلماء يقولون انها احتكاك الجزيئات، و لا يعلمون ما هي حقا. انها جميلة، وجمالها في انها تدمر التبعات والمسئوليات. كلما تعقدت مشكلة ما فعليك بالمحرقة. والان يا مونتاج انت عبء وسترفع النار عن كاهلي هذا العبء. والان يا مونتاج اريدك انت ان تحرق بيتك بقاذف النار.. اريدك ان تطهر نفسك بنفسك.
في اللحظة التالية لم يدر مونتاج بنفسه وهو يصوب قاذف اللهب نحو بيتي.. وفي ثوان تحول بيتي الى وهج صارخ.. وصدر صوت هسيس كأنها بصقة هائلة تغلي فوق موقد ساخن لدرجة الاحمرار.. وسد مونتاج اذنيه كي لا يسمع الصوت وصرخ ..
- بيتي .. انك لم تعد مشكلة بعد الان. كنت انت القائل دوما: لا توجد مشاكل .. بل احرقها.. وداعا.
وجد نفسه يكلمها قائلا:
- انت احمق يا مونتاج.. كل ها بسبب حدة الطبع.. لم تكد تبدأوها انت قد تقيأت كل شئ على الاخرين وعلى نفسك. من الغريب ان تقف وتبتسم في وجه من يهددونك بالموت حتى تجعلهم يجنّون.. لقد اراد بيتي الموت وقد اراده.. 
صوت عربات الاطفاء من بعيد..
فكر في الهرب. لكن الى اين يفر.. الى بيت فابر.. سيكون هذا محاولة للانتحار.. لكنه سيذهب على كل حال، ومن عقل فابر سيجد الوقود الذي يعيد له ايمانه بقدرته على الاستمرار حيا.
ونظر الى السماء ليرى طائرات الهليوكوبتر .. دستتان منها تحومان كالفراشات التي اربكها ريح الخريف.. تنقب عنه في كل صوب.. وها هي تهبط كانها رقائق الثلج تنحدر الى الارض. مشى في الشارع الخالي الذي بدا كحلبة المصارعة تنتظر ضحايا مجهولين، سوف يواجهون قتلة مجهولين. واقتربت منه سيارة بسرعة جنونية. خطر له انها سيارة شرطة، لكنها اجتازته.. وسمع ضحكات صبية..

***
لقد غادر الان المدينة. شعر كأنه ممثل يغادر مسرحا مليئا بالممثلين. انه يغادر عالما من الحقيقة المخيفة الى عالم من الحقيقة التي لا يمكن ان تكون حقيقة لانها جديدة تماما عليه..
رأى القمر في السماء.. لكن ما مصدر ضوء القمر؟ الشمس طبعا.. الشمس تدوم وتحرق.. الشمس والزمن والحريق.. الشمس تحرق كل يوم.. والزمن منهمك في حرق الاعوام..
كلما تنفس اكثر دخل المزيد من المعرفة الى عقله. انه ليس خاويا.. هناك دوما المزيد من المعرفة لكي تملأ عقله والمشاعر لكي يجيش بها صدره.
رأى في النهاية نارا.. كانت تمنح الدفء لا الاحتراق.. اثار دهشته ان النار تعطي كما تأخذ احيانا..
كان يتحلق حولها خمسة رجال ذوي لحى حليقة.
- تفضل . شاركنا في فنجان قهوة. نحن نحفظ الكتب هنا.. في عقولنا.
حاول مونتاج ان يرى في عيون هؤلاء الرجال بريق العلم الذي يحملونه، لكنه لم ير شيئا مميزا.. مجرد رجال لا يميزهم شيئا.. مجرد كتب تمشي على قدمين.
وضحك احدهم وهو يقول:
- لا تحكم على الكتاب من غلافه!
وضحك الرجال. 
قال جرانجر:
- اسمع يا مونتاج .. كان لي جد بارع يربي الحمام ويعزف الكمان. حين مات حزنت لانني لم ابك عليه، بل على كل الاشياء التي لن تكون فيما بعد. كم من حمائم لن تفرخ، وكم من الحان لن تعزف.. وانت يا مونتاج، ماذا قدمت للعال؟
- رماد..
- كان جدي يقول. ان كل انسان لابد ان يترك شيئا بعده والا لن يذهب للجنة.. يترك طفلا.. جدارا.. نبتة.. قصيدة.. كتابا.. وكلما نظر الناس للشئ الذي تركته وجدوك فيه.. لا يهم ان تكون بارعا.. المهم ان تترك شيئا او ان تغير شيئا عما كان عليه قبل ان تلمسه..

المصدر: اسطورة برادبوري التي لا تنسى "فهرنهايت 451"

18 يناير 2016

فهرنهايت 451


تنطق المعرفة في صدور الكتب بعد صوم دهري عن الكلام. فهي مخزونة هناك في صمت و ترقب لنابش متعطش، و لعاشق كتب ، ولضال موشك على الهداية. نجدها تعاهد الساعي لها، وتطرق باب الغافل عنها، وتتركه إحتراما لرغبته، ولها قوة يقين بقدرتها على إستعادته يومًا ما، تلك هي المعرفة المخزونة في كتب برادبري الذي يتبصّر بإن تكون الكتب يوما ستكون حبيسة في عقول البشر بعد عجزها عن الإرتصاص في رفوف المكتبات.

تدور أحداث الرواية حول أنه سيأتي على هذا العالم فترة يحرّم فيها تداول أو قراءة الكتب،  لما فيها من أفكار تدعو البشر لأن يفكرون ويثورون ويختلفون.  ويكون العمل الرئيسي هو إحراق الكتب، وإحراق أى منزل به كتاب.

المشهد الذي يرسمه برادبوري والذي يتكرر في كثير من أحياء مدينته المفترضة بطريقة ممسرحة تهدف إلى إرهاب الناس. الكتب مكدسة كأكوام كبيرة من الأسماك المتروكة لتجف، الرجال يرقصون ويتعثرون ويسقطون فوقها. أبخرة الكيروسين تغرق الكتب وتهيئها للمحرقة، يضخّون السائل البارد من الأوعية المربوطة على ظهورهم والمرقّمة 451. حيث يتهم من بحوزته كتاب بالهرطقة ويجرم ويعاقَب.

بطل الرواية يعمل كرجل حريق يحرق أى منزل به كتب. ثم يبدأ في احد الايام التفكير في الأمر، يحدث نفسه أنه لا بد من وجود أشياء في الكتب تجعلهم يحرقونها، لكن ما هذه الأشياء التي تجعل امرأة تفضل ان تبقى في منزل يحترق لتحترق مع كتبها على ان تحيا بدونها. وأن هناك من يمضي عمره ليدون بعضا من أفكاره وتأملاته في العالم والحياة من حوله في كتاب، ثم يأتي هو ويدمر كل شيء بسرعة ويحوله إلى رماد. يشعر باشتعال الحريق في ذهنه ويبقى متقدا مستعرا، يحاول إطفاءه دون جدوى، الى ان يقرأ ذات مرة كتابا، ومن ثم يقع تحت تأثير حب الكتب، ويبدأ بعدها في رحلة مناهضة لعملية حرق الكتب.

يختم الكاتب روايته بإطلاق صفّارة إنذار، حيث تنشب حرب شاملة تودي بالمدينة وتحرقها وتدمرها، ليكون الأمل في إعادة البناء والتأسيس بناء على ما يختزنه الهاربون من بطش النظام في صدورهم، وعقولهم ليكونوا هم التراث والمستقبل معا.

لتحميل الرواية انقر
هنــــــــــــا