مؤلفات هذا الفيلسوف كثيرة، ولكن
كتاب الاعترافات يعد من الكتب القليلة التي اثرت في حياة الكثيرين. واغسطينوس في هذا الكتاب يدون ترجمة حياته، ولكنه لم يقصد بهذا ان يطلعنا
على ما فيها من خبرة ذاتية بل على ما في هذه الخبرة الشخصية من قانون عام يصلح تطبيقه
على الانسان في كل زمان ومكان.
ونسأل ما هي خبرة الفيلسوف الذاتية؟
جوابنا عن هذا السؤال هو جواب اغسطينوس
نفسه.
اضطراب في بداية حياته بسبب حجج المشككين،
قادته الى ازمة شك حادة، شعر انه يضل الطريق، وانتفى منه اليقين او كاد. غير ان الانسان لا يستطيع ان يمضي بالشك الى الحد الاقصى. لماذا؟
لان الانسان لا يستطيع ان يحيا بدون يقين.
اليقين كائن في الشك نفسه.
هنا يسرد اغسطين الحوار الاتي للجواب على
هذا السؤال:
- انت يا من يريد ان يعرف نفسه، هل تعرف انك
موجود؟
- هل تحس نفسك بسيطا ام مركبا؟
وتسألني ما دلالة الحوار. دلالته ان الانسان على يقين انه يفكر لانه يشك. اذن الشك المطلق محال،
فثمة حقيقة مؤكدة هي انني افكر. وتسأل ما حقيقة هذا الفكر. من المؤكد ان المواد الطبيعية لا تنتج فكر، اذ ان الفكر يستطيع ان يشك
في وجود هذه المواد، ولكنه لا يستطيع ان يشك في ذاته.
غير ان الفكر يستطيع ان يشك في افكاره.
فاذا ما استيقن الفكر حقيقة ما، معنى ذلك انه ليس مصدر هذه الحقيقة.
لابد ان يكون اسمى من العقل وهو لن يكون
الا الله.
والخلاصة من كل هذا ماذا تكون؟
الخلاصة ان العقل وحده ليس كافيا لمعرفة
اليقين كله. اذن هو في حاجة الى شئ اخر. انه الايمان. وعندئذ يحق لنا هذا القول "تعقل
لكي تؤمن". وبالفعل اتى الايمان الى اغسطين وتم في
لحظة، وما كان ينبغي الا يتم الا في لحظة. ومن بعدها كان القديس اغسطين في علاقة مع
الله. وموضع الابهار في هذه اللحظة انها شملت قوى النفس كلها وضمتها كلها حول حقيقة
واحدة. وللعقل بعد ذلك مهمة ثانية، هي مهمة تفهم الحقائق الدينية. بحيث نقول "امن
كي تتعقل". العقل اذن للايمان والايمان للعقل. وهذا هو القانون العام يستخلصه
اغسطين من خبرة ذاتية.
واول ما يخطر على البال ان اغسطين يدين
بالعقل كنقطة للبداية الا انه الخاطر الاول، ولكنه لم يكن كذلك.
فالعقل يبين لك الطريق ولكنه لا يبين لك
البواعث التي تحركك الى ذلك الطريق. والباعث المحرك في رأي القديس هو نقاء السريرة.
فحين يقول الجاهل في قلبه لا يوجد له (مز14).
فانما يقول ذلك لحماقة في قلبه وليس عقله. ونقاء السريرة لا ينطفئ له ضياء فيضئ
للعقل ويضئ للايمان. ومن تمام الوضوح في هذه الحقيقة ما نشاهده من ان الايمان لا يدركه
الجميع. يحق اذن القول تطهر لكي تؤمن. وهذه نقطة للبداية في فلسفة القديس اغسطين، يلمحها
في ثنايا مذهبه كل من له دراية به. وما اقواها من نقطة للبداية. وما اعظمها اثرا في
دوافع الايمان، وما اولانا ان نتيقن من ذلك كلما مرت اجيال واجيال في تاريخ الانسان،
وهو يبحث عن الايمان فلا يجده الا بمقدار ما في قلبه من نقاء ومحبة، لا بمقدار ما في
عقله من قوة وذكاء.
====
خلفية هذا الكتاب:
إقام القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره وظل فيها حتى التاسعة عشرة. وكانت مصادر حيرته في هذه الفترة:
أولا - حب المناظرات.
ثانياً - التقدم في الدراسات الفلسفية ومحبة الحكمة.
ثالثاً - عدم التلذذ بالكتاب المقدس.
رابعا - الضلال مع المانويين ودحض بعض عقائدهم.
و لو حللنا هذه الاربعة امور، لوجدنا انها تتعلق كلها بالبحث عن المعرفة و لكنها من المصدر الخاطئ.. و هي مشكلة قديمة من ايام ابينا ادم الذى اشتهى ان يصير "عارفا الخير و الشر".
لقد سجل القديس اعترافاته في كتاب تقرأه كل الاجيال و لا يخاطب الكتاب القارئ انسان ايا من كان و لكنها كلمات اعتراف تخرج من فم قديس جاث فى محضر الله يعدد فيها تفاصيل حياته منذ لحظة ميلاده.. ولا يعترف فقط بذنوبه و لكنه ايضا يعترف بنعم الله. اسمعه و هو يقول مثلا عن دور الرضاعة:
"لست أذكر ، ولكني سمعت من والديً اللذين صورتني من جسديهما في وقت من الأوقات ! لقد سمعت أنك أعطيتني لبن المرأة غذاء أنعم به ، أن أمي ومربياتي لم يملأن أثدائهن باللبن لأجلي ولكنك أنت - تبعا لشريعتك التي قسمت بها ثرواتك في الينابيع الخفية لكل الأشياء - قد وهبت ليً طعام الطفولة بواسطتهن كما وهبتني أن لا اشتهي أكثر مما أعطيته لهن ! لقد كانت مربياتي بعاطفة علوية تلقينها من السماء يعطينني عن طيب خاطر ما فاض عليهن مما أعطيته لهن ، وفائدتي منهن كانت حسنة لهن وإن لم تكن في الواقع منهن بل بواسطتهن ! لأن كل الأشياء الحسنة هي منك يا الله .."
لا يخلوالكتاب ايضا من المناجاة لله من اول صفحة فيه و حتى الخاتمة . اتركك ايها القارئ مع مشاعر نفس مرهفة تعترف لله وتسبحه ايضا..
في اعترافه يسبح الله فيقول:
عظيم أنت يا رب وأعظم من أن تٌسبح
عظيمة هي قوتك أما حكمتك فإنها تفوق كل وصف .
ربي ، إنك جدير بأن يسبحك الإنسان ، الإنسان الذي ليس إلا ذرة من خليقتك الإنسان الذي يقاسي موته ، ذلك الموت الشاهد علي خطيته وإثمه ، ومع ذلك فهل هو يسبحك؟ ليتك توقظنا لنبتهج في تسبيحك . لانك صنعتنا لك وسيظل قلبنا مضطرباً إلي أن يرتاح فيك!
هَب لي يا رب أن أعلم وأفهم أيهما يكون أولا، أأدعوك أم أسبحك ؟ وأيضاً أأدعوك أولا أم أعرفك؟ إذ من ذا الذي يقدر أن يدعوك وهو لا يعرفك ، لأن الذي لا يعرفك قد يدعو سواك قاصداً بهذا أن يدعوك أنت !
ونحن الذين ندعوك هل نعرفك ؟ !
ولكن كيف يدعون الذي لا يؤمنون به ؟ وكيف يؤمنون بلا كارز ؟ إن الذين يطلبون الرب يجدونه والذين يجدونه يسبحونه .
كتب للتحميل:
1- خواطر فيلسوف في الحياة الروحية تجده هنــــــا