4 مارس 2015

قراءة في رواية "حرب كاري"


مكان دافئ مضاء جيدا يشيع فيه جو بديع من السلام والراحة. وهذا المكان هو مطبخ السيدة ايفانز. ليس الامر هكذا، هذا المساء فقط بل انه كذلك علي الدوام. احساسك حين تتواجد فيه يشبه تماما شعورك حين ترجع الي البيت بعد يوم عمل شاق. او يشبه رائحة اللحم المشوي عندما تكون جائعا، او يشبه ايدي حانية تربت على كتفيك وتضمك حينما تكون حزينا. انه الشعور بالامان حينما تكون خائفا.

فتح الباب وبدا ان السيدة ليست في عجلة لاغلاقه. كانت ببساطة تنظر الى الاطفال مبتسمة ابتسامة خفيفة. كانت مس ايفانز امرأة طويلة ذات شعر لامع مسترسل اشقر اللون، ترتدي مريلة بيضاء وقد شمرت اكمام فستانها فبدت ذراعيها الغليظتين مغطاتين بذرات الطحين.
حينما ولجت كاري الى الداخل جالت ببصرها في جنبات المطبخ الكبير. كان المطبخ معتم الاركان ولكنه كان مضاءا في الجزء القريب من القنديل الزيتي الذي تدلى من السقف في المنتصف صانعا حلقة من الضوء الخافت. كان البرت ممسكا باحد الكتب، وجالسا الى منضدة صغيرة كانت اسفل المصباح مباشرة. صاحت كاري وهي تتلفت حولها وبدت خائفة الى حد كبير :
- اغلقوا الباب.
تحركت السيدة ببطء، فكرت كاري: هؤلاء الناس بطيئين جدا في حركتهم،. ثم قالت بقنوط:
- مس ايفانز ارسلتني من اجل الاوزة. لكن شئ ما طاردنا فركضنا ولكنه تعقبنا. شئ يصدر صوتا كالديك الرومي. حملقت السيدة الى الجهة التي اشارت اليها كاري فى الظلام خارجا.
- اوه، اسرعي واغلقي الباب من فضلك. والا سيدخل.
ابتسمت السيدة مجددا ابتسامة كبيرة. فظهرت اسنانها البيضاء مع تجويف في المنتصف.
- يبارككما الرب. انه فقط السيد جوني. انا لم اكن اعرف انه بالخارج . لقد ذهب لكي يقفل على الدجاجات.
قال البرت:
- اعتقد انه ذهب للتمشي بعد ذلك.
قالت كاري متحدثة ببطء لكي تجعلهما يفهمان ما تقصد:
- لكنه لم يكن شخصا، انه لم يكن يتكلم لقد كان يحدث اصواتا غريبة.
قال البرت بهدوء لكي يهدئ من روعها:
- هذه طريقة جوني في الحديث.
ونظر بصرامة الى كاري واستطرد قائلا: يجب ان تعتادي عليه. وانا اعتقد انكما اخفتماه كثيرا. بماذا تشعرين عندما تجدا الناس يهرعان مبتعدين عنكما في حين انكما لا تقصدان بهما سوءا.
نادت السيدة في الظلام:
- كل شئ على ما يرام ، جوني من فضلك ادخل.
ظهر شخص بالباب ووقف بجوار السيدة وكأنه يريد الامان، كان شخصا ضئيل الحجم ملابسه ليست نظيفة ووجهه مجعد. حاول ان يبتسم ولكنه لم يفعل ذلك بريقة صحيحة فاحد جوانب فمه تهدل.
قالت السيدة:
- هذا جوني، يا صغاري، ثم التفتت اليه وقالت:
- جوني، هيا قل لزائرينا، كيف حالكما.
نظر اليهما واصدر ذلك الصوت الغريب من حلقه. الآن فقط بدا كأنه يتحدث، ولكنها لغة غريبة غير معروفة، مسح يده اليمنى في بنطاله ونظر اليهما، لم تقدر كاري ان تحرك ساكنا، وعلى الرغم من انه لم يكن شبحا الا انها ما زالت خائفة جدا، خائفة ان تلمس تلك اليد التي امتدت لتصافحها. لكن اخاها نيك قال بلطف:
- اهلا جوني، وصافحه وكأن ذلك ايسر شئ واكثر الامور الطبيعية في العالم، واردف:
- انا نيك، نيكولاس بيتر ويلو، عمري عشر سنوات، لقد احتفلت بعيد ميلادي الاسبوع الماضي، بينما كاري اختي ستكمل الثانية عشرة في مايو المقبل.
قال جوني:
- هش هارش شالا. كان رذاذا يخرج من فمه وهو يتحدث. كانت كاري مرتعبة في اللحظة التي مد فيها يده ليصافحها.
لكن السيدة تداركت الموقف سريعا وقالت:
- الاوزة جاهزة لكما. ولكن قبلا ستأخذان شيئا صغيرا اولا. والتفتت الى البرت وقالت:
- البرت، هيا اصطحب كاري لتحضر الاوزة، بينما اعد لكم المائدة.
اخذ البرت شمعة واشعلها. تبعته كاري وسارت خلفه خلال ممر حجري الى معمل اللبن. كانت الاوزة مربوطة. كان المكان حول الاوزة متسخا قليلا. وكان هناك على الرف اناء كبير من اللبن تعلوه طبقة سميكة من القشدة. شعرت كاري بالجوع وقالت:
- اعتقدت ان جوني ميتا.
قال البرت وهو يضع الشمعة ليتمكن من الامساك بالاوزة بكلتا يديه:
- ليس هذا، جوني هذا بن عمي اعتاد ان يعيش في نورفولك. لكن حينما مات والديه كان مريضا منذ مولده.
قالت كاري: افتح الكيس لكي اتمكن من وضع الاوزة، هل انت مجنون؟
ليس اكثر جنونا من كثير من الناس. فقط ابسط قليلا من بعضهم. انا برئ او ساذج. هكذا وصفتني السيدة ايفانز. دفع البرت الاوزة وربط قمة الكيس. وقال بهدوء:
- انها ساحرة.
- ساحرة؟
- ليس الامر ما تفكرين به، او مثلما في الروايات. عندما كنت صبيا مرضت واعطتني بعض الاعشاب، فتحسنت صحتي سريعا، بينما كان الطبيب الذي عادني معتقدا انني اموت. لقد همس في اذن والدتي قائلا: لا اعتقد انه سيعيش حتى الربيع المقبل.
- الهذا السبب كنت في الفراش. واحمرت وجنتاها وهي تقول: ماذا ألمّ بك؟
- التهاب رئوي، وحمى روماتيزمية. لقد كنت محظوظا اذ ارسلوني الى هنا، الى السيدة ايفانز، والا كنت سألقى حتفي. لقد قلت للطبيب اني احب الكتب، فقال لي، انك ستجد كتبا في هذا المكان، وبالفعل وجدت مكتبة رائعة. هل تريدي رؤيتها؟
ترك الجميع الاوزة في المعمل، وتبعته كاري ونيك خلال ممر ضيق، ثم دخلا من خلال باب متأرجح الى قاعة متسعة مظلمة، حيث كانت ثمة ساعة تدق في احد اركانها، ومصباح زيتي صغير يلقي بضوئه فيضئ المكان اضاءة خافتة.
رفع البرت الشمعة عاليا، حيث امكن لكاري ان ترى الكتب على الارفف التي تصل الى السقف ومعظمها كان معنونا بحروف ذهبية. قال البرت في صوت وقور كما لو كان يتحدث في كنيسة:
- رائع، اليس كذلك؟ ولكن لا احد يستخدمها سواي.
سألت كاري: اين السيدة جوني؟
- انها راقدة. لمعت نظارته وهو ينظر اليها:
- انها تحتضر على ما اعتقد.
ذكر موت شخص افزع كاري. نظرت الى السقف وارتعشت. اردف البرت:
- لقد كانت مريضة لسنوات. كنت اقرأ لها احيانا في الكتب. هل تحبين القراءة؟
- ليس كثيرا.
لم يكن ردها صحيحا تماما. لكن كل هذه الكتب الكثيرة جعل قلبها يخفق. زفرت وهي تقول:
- يا لها من كتب كثيرة! اعتقد انها تستغرق الحياة كلها لتقرأها.
سأل البرت في تعجب :
- وماذا تفعلين؟.. اقصد عندما لا تذهبين الى المدرسة في العطلة الصيفية.
- انا اساعد في الدكان . دكان السيد ايفانز. نيك لا يسمح له الان.. واحيانا اتزحلق في الجبال.
بدا ذلك لالبرت اعمالا طفولية، ولكنه قال بلطف:
- ولو انكما لا تهتمان بالكتب كثيران دعوني اريكما شيئا. انه جمجمة الصارخة. يوجد قصص كثيرة عنها. غير حقيقية لكنها مثيرة. وتقدم الى الجمجمة ووضع الشمعة على منضدة. تلكأت كاري في الدخول الى الحجرة التى بدت معتمة ومرعبة.
- اوه، انها فقط جمجمة . تعالي وانظري.
كان ثمة صندوقا على المنضدة، وبداخله استقرت الجمجمة على قطعة من القماش القطيفة البنفسجي اللون. لمستها كاري بخفة. كانت دافئة اكثر مما ظنت.
- ما قصة هذه الجمجمة؟
- اسألي السيدة ايفانز وسوف تخبرك افضل مني. ثم اردف:
- من المفترض انها جمجمة افريقي احضر هنا خلال عصر تجارة الرقيق. لكن انا لا اعتقد ذلك. انها ليست جمجمة صبي. اقصد انظري، التقط البرت الجمجمة من مكانها واراها لكاري، واردف:
- الفك السفلي مفقود وكذلك بعض الاسنان من العلوي. لكن الضروس هنا. ان لها 16 ضرسا في الفك العلوي والذي يعني ضروس العقل وانت لا يكون لك ضروس العقل حتى تبلغين ال18 على الاقل لقد طالعت كتاب تشريح واعرف ذلك. ثم انظري هذه الخطوط في القمة انها تسمى خطوط الالتحام حيث تبدأ في الالتحام عقب الفطام. ولذلك يجب ان تكون لشخص بالغ، ولكنها صغيرة الحجم عن ان تكون لذكر بالغ، ولذا فانها يجب ان تكون لامرأة ضئيلة الحجم.
ثم وضع الجمجمة ونظر الى كاري وقال:
- هذا يجعلني انبئ بقصتها، بالطبع لا اعرف تماما، لكن يمكن ان تعرفي عمر هذه العظام، لذا سأخذها الى المتحف البريطاني، واطلب منهم ان يكشفوا على عمرها. المتحف البريطني يكتشف كل شئ، انه اروع مكان في العالم! هل ذهبت اليه من قبل؟
- ذات مرة.
وتذكرت كاري انها ذهب ذات مرة، وكان مملا جدا. كل هذه الاشياء المعروضة في الخزانات الزجاجية قفزت الي خيالها.