3 مارس 2015

خواطر مراهق


كانت تنقصه الجرأة للعودة الى العمل بعد ان اعتاد حياة البطالة والرفاهية واثناء مروره بالردهة مرت عيناه على لوحة من ايام ما كان يريد ان يصبح رساما. اعادت تلك اللوحة الى ذاكرته عدم اهليته لأن يكون رساما ناجحا، وكان يعزو ذلك لافراط ذوقه الفني في الدقة، وعلى اي حال فان ذلك لم يكن ليسره. لقد استقال من عمله منذ 7 اعوام لتوهمه ان له موهبة الرسم. وها هو الان يرى نفسه مجبرا على الاعتراف بخطأه في الاستهانة ببقية المهن كما فعل من قبل. فألقى نظرة سريعة مملة بالقلق على ما في الغرفة من البقية الباقية لمظاهر حياة مترفة، وعاد فدخل مكتبه وهو منقبض النفس. 
..
كان يحدوه للزواج امران اولهما العيش عيشة الاستقرار والرضا، وثانيهما الامل في ان يجعل حمل مسئولية عائلة من حياته التي تبدو جوفاء، حياة ذات معني واهدافا نبيلة. غير ان اعتبارات اخرى كانت تدفعه للاقلاع عن فكرة الزواج، اولها، الاشفاق على نفسه من فقد الحرية التي يتمتع بها من يحيون حياة العزوبية، وثانيها الحذر مما عند سائر النساء من صفات خفية قد تثير المشاكل بعد الزواج. هكذا كانت الافكار تتنازعه بين وضعه الحالي وبين الزواج ما بين مؤيد ومقبح.
...
هل الاسد يحب فريسته؟ ايتها الغزالة المسكينة! ان الاسد لا يحبك لذاتك وانما لذاته. لقد احتقرتني مارفا وانا المنتصر في الواقع. لو ان شخصا بصق في وجهي فعلا لما غضبت لانه ضحية. ان يشعر المرء بقوته الحقيقية امتع كثيرا من ان يكون مسيطرا سيطرة ظاهرية. لو كنت غنيا املك الملايين وطُلب مني ان ارتدي ثيابا بالية، وان اوهم الناس بأنني متسول، وان اجعلهم يزدرونني لفعلت ذلك، فحسبي عند ذلك معرفتي بثرائي ولا يهم ما يعتقده الناس.
بهذا كنت استطيع ان اقسر افكاري واحتفظ بفرحي. لكنني كنت اعمق احساسا. ولعلني اخطأت اذ اخذت اكتب . ان ما يبقى في اعماقي من مشاعر اكثر كثيرا مما يظهر في كلماتي. حقا ان كلمات المرء تظل افقر كثيرا مما يكنه قلبه، او بكلمات اخرى ان افكار الكثيرين مهما كانت ضعيفة تظل اعمق كثيرا مما يفصحون عنه، وهذا يرجع لعجزهم عن التعبير عن انفسهم. بل ان افكار البعض تصبح اقرب الى الاضحاك والبعض الاخر ابعد عن الحقيقة متى عبروا عنها. 
...
اليوم خضت اول مغامرة لأن اكون تاجرا ثريا. ما حدث ربما يبدو للبعض امرا صغيرا لا قيمة له. اما بالنسبة لي فكان اول خشبة استخدمت لصنع السفينة التي ابحرت بكريستوف كولمبس لاكتشاف الامريكتين، او بتعبير ابسط الخطوة الاولى في طريق الالف ميل.
ان كان يوجد شئ لا حاجة لأحد في الدنيا اليه، فهو هذا الالبوم الذي اشتريته. قلت لنفسي لا ضرر من هذا.. ان اول تجارة خاسرة دائما. حتى لقد يكون خسارتي هذا بشير خير. لقد كنت فرحا حقا. وبينما كنت احدث نفسي اذ دوي صوت في اذني قائلا:
- يا صاحب، هل تريد بيعه؟
-ابيعه لك بعشرة جنيهات.
-ولكن مهلا ارجوك، هذا البوم عتيق لا قيمة له. فيم عساه ينفعك؟ ولن تجد من يشتريه منك.
-لا يهم. كان يجب ان اطلب 25 جنيها. لن اخفض الثمن جنيها واحدا.
قلت ذلك ثم ادرت ظهري وانصرفت. لكنه ادركني بعد عدة امتار، وقال:
- خذ اربعة، بل اليك خمسة جنيهات! ظللت اسير دون ان اجيب.
- اذا. اليك المبلغ كله.
- ربما كان هذا ليس من الشرف، شئ تشتريه بجنيهين ثم تبيعه بعشرة.
- ولماذا لا يكون من الشرف في شئ؟ هذا سوق.

اعتقد انكم تظنون انها مجازفة حمقاء، انني اسلم بذلك.

عن رواية "المراهق" للاديب الروسي: دوستويفسكي 

ليست هناك تعليقات: