كان نور الشفق قد اخذ يتلاشى امام طلائع الظلام. كان ايفان يحث خطاه على الطريق الذي كانت مقفرا في تلك الساعة. وكان الليل يكاد يهيمن على الكون.. ويمكن وصف الفكرة الطاغية التي كانت تدور في رأسه في تلك اللحظة بانها تتلخص في تلك الكلمات "لقد فات الاوان على اصلاح نفسي ..اذن.." واحس بشئ لم يعرف له مثيلا من قبل كان يدنيه من اليأس.. لكنه خطر له هاتف يحثه للذهاب الى منزل اخيه الاصغر اليوشا. حين وصل صافح اخاه بحرارة لم يألفها قط من قبل.. بدأ ايفان حديثه:
- اخي اسمح لي بسؤال: هل يحق للمرء ان يدقق في وجوه الناس ويقرر من منهم يستحق الحياة وايهم يمنع عنها؟
- ولماذا تحشر مسألة استحقاق الحياة في الامر؟ ان هذه المسألة كثيرا ما يتم تقريرها في قلوب الناس، اما فيما يتعلق بالحقوق، فمن من الناس يمكننا انكار حقه؟ وانا ارى ان تلك انانية بغيضة.
ثم اطرق الى الارض وبدت عليه ملامح فيلسوف متأمل، واستطرد قائلا:
- ان الاناني هو ذاك الشخص الذي يتوق الى التنعم بملذات الحياة كاملة وحيدا. ولكن جميع جهوده لن تؤمن له كل ملذات الحياة، بل تقوده الى الدمار الذاتي، لانه بدلا من ان يصل الى مبتغاه واثبات وجوده تقوده الى العزلة التامة. لقد بات الناس كل ينشد البعد عن غيره، وينفرد بمسلكه وينأى بذاته عن الاخرين. ويخفي نفسه ويخفي ما يملكه عن غيره وينتهي بهم المطاف الى ان يكره غيره.
استغرق ايفان في التأمل برهة وهو مسند مرفقه على المنضدة ورأسه على راحة يده ثم قال:
- ولكنك ترى ان كثير من الناس يكدسون الاموال وكل منهم يحدث نفسه مغتبطا قائلا: "الان اصبحت قويا وامنا على نفسي".
- نعم ارى ذلك جيدا، وهم لفرط حماقتهم لا يدركون انه كلما كدس المرء المال كلما تردى في هوة الضعف الذي يحطم الانسان تحطيما. ذلك ان الانسان يعتاد انذاك الاعتماد على نفسه وحدها فيلغي مفهوم "التعاون" من مفاهيمه ومن سلوكه. انه يكفر بالانسانية ويعيش مرتعدا كل ساعة خشية فقدانه الاموال والامتيازات التي كسبها لنفسه. انك تجد الكثيرون الان لم يعودوا يفهمون ان الأمن الحقيقي كائن في التماسك الاجتماعي بدلا من الجهد الفردي المتفرق.
ثم زمّ شفتيه وهزّ رأسه وقال:
- ان هذه الفردية البغيضة لابد ان تنتهي يوما ما، ولكن الى ان يحين ذلك لابد ان نعمل ولو افرادا قلائل على تخليص ارواح الناس من وحدتها، وحضّهم على ان يؤدوا من الاعمال ما يوحيه الحب الاخوي.
ابتسم ايفان ابتسامة ساخرة:
- ارى ان حديثك ما هو لغو، وان احلامك ما هي الا كالمقذوف الذي اندفع يشق عنان السماء ويكون له انفجار مدو، ولكنه ينتهى الى لا شئ. لكن، هل كانت حقا تريد ارسالي الى "شامورزين"؟ واختلجت نبراته..
قال اليوشا:
- مهلا هدئ من روعك. تمهل قليلا لا تبد اسفا. ثم نهض من مكانه ووضع اصابعه على جبهته واطرق هنيهة ثم قال: لقد شكرت الله منذ هنيهة على ارسالك اليّ فلقد بعثك الرب اليّ في الوقت المناسب كما بعث السمكة الذهبية الى الصياد الاحمق في القصة.
- اصغ الي يا اليوشا! اصغ الى يا اخي! لقد فتحت قلبي لملاك من السماء والان اريد فتحه لملاك على الارض. وانت هو هذا الملاك.
ثم بعد لحظات انخرط في البكاء وقبض على يد اليوشا وهو يقول:
- "يا عزيزي، يا للشقاء العظيم الكامن للانسان على الارض!.. انني ماض في طريقي، ولست ادري ما اذا كنت مسوقا الى العار ام الى النور والبهجة. ان الشئ الذى لا اقوى على احتماله، هو ان يعمد انسان رفيع القلب سامي العقل الى جعل مريم العذراء قدوة له في اول الامر، ثم يتخذ من سدوم مثالا له في نهاية الامر.
- لقد كنت اريدك ان تبوح باسرارك لي منذ وقت طويل، ولكني ايضا كنت اعلم طباعك جيدا من قبل، فما انت الا شخص كتوم كالقبر.
- ولكني اراك يا اخي وقد احمررت خجلا بمجرد بدأت بالكلام، ولعلي ابصر في عينيك وميض نار ما ان اتي الى ذكر ما يؤرقني بالاكثر..
تبدلت ملامحه وانفرجت اساريره ثم اغرق في ضحكة جامحة عنيفة اهتز لها بدنه ولم يستطع لوقت طويل ان يوقفها ليتكلم.. واخيرا قال:
- ان ما ذكرته لك يا اخي ليس بالشئ الكثير، انه لا يعدو الا ان يكون ازهارا نامية على جانبي الطريق. ان لدى سجلا حافلا بالذكريات.. ولا تعجب اذا وجدتني التذ بهذه الذكريات بدلا من شعوري بالخجل.
- لكني لا اعتقد انني استطيع ان افهمك. اعذرني يا اخي ولا تغضب مني ان قلت لك، اني لا اطيق ان اسمع المزيد.
- على اية حال، انني لم احضرك للتحدث اليك عن هذا اللغو. ولكن هو الظرف الذي جرّني للكلام.
رائعة دوستويفسكي "الاخوة كرومازوف"